وأعطى إبليس اللعين ما أعطاه من الفهم والتمييز لأن يطيعه ولا يعصيه، وأراد أن يطيعه تخيراً وإيثاراً لطاعته، فكانت هذه إرادة معها تمكين واستطاعة، ولم يرد أن يطيعه قسراً، ولا أن يمنعه من المعصية جبراً، (فيكون إبليس اللعين في ذلك غير محسن ولا مسيء فلم يحل بينه وبين المعصية قسراً، ولم يحمله على الطاعة جبراً). فمكنه وهداه، ثم أمره ونهاه، فرفض - له الويل - تقواه، واتبع هواه، وكفر نِعَم ربه، وكره تنزيله وحكمه، فكان كما قال الله سبحانه: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ?[محمد:8]، فلو كانت الكراهةُ لما أنزل الله قضاءً له فيهم، وفعلاً أدخله سبحانه عليهم، لكانت من الله، لا منهم، ولكان الكاره لتنزيله لا هم، ولكانوا ناجين من العقاب، وكانوا متصرفين في أمره في كل الأسباب. وكذلك المهتدون، لو كان هو الذي فعل هداهم، وزادهم في تقواهم، لم يقل: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ?[محمد:17]، ولو كان ذلك كما يقول الجاهلون، وينسب إلى الله الضالون، لكان من اهتدى ومن كره وأبى في الأمر عند الله شرعاً واحداً، إذ كان كلهم في أمره وقضائه له مطيعاً متقلباً متصرفاً في إرادته سريعاً.
وأما قوله: من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية؟ وأن الموت يقضي عليهم؟(1/383)


فإن جوابنا له في ذلك: أن الله أعلمه ملائكته، فسمعه إبليس من ملائكة الله فيما كان يسترق من السمع كما قالوا وحكى الله عنهم في قوله: ?وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا?[الجن:9]، فكانوا - قبل أن يبعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ويكرمه بما أكرمه من الوحي إليه - يسترقون السمع، فلما أن بعثه الله حجبهم عن المقاعد التي كانوا يقعدونها من السماء ويسترقون من الملائكة الأخبار فيها، فيهبطون بها إلى إخوانهم من كهنة الإنس وأوليائهم، كما قال ذو المن والجلال: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا?[الأنعام:113]، فلما أرسل الله رسوله بالوحي البالغ، والنور الساطع حجبهم عن علم شيء من أخبار السماء، لكيلا يسبقوا به ولا يفشوه إلى إخوانهم من كهنة أهل الدنيا، فقذفهم بما جعل لهم من النجوم شهباً رصداً فرماهم بالنجوم من السماء، ولم يكن قبل ذلك بشيء منها يُرمى فهيل لذلك أهل الأرض والشياطين في الهواء، فقالوا في ذلك كما أخبر الله به عنهم وحكى من قولهم: ?وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا? [الجن:9]، فمن الملائكة علم إبليس أخبار آدم وذريته. ولو لم يعلم الله الملائكة بذلك لم يعلمه إبليس ولا هم، كما لم يعلموا ما كتمهم من أسماء الأشياء التي أعلمهم آدم بأسمائها في وقت ما علمه الله أسمائها وكتم الملائكة إياها، كما قال سبحانه: ?وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ(1/384)


سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ?[البقرة:31ـ33]، فأنبأهم حين أمره الله أن ينبئهم بأسمائهم ما كان قد غبي عنهم علمه من الأشياء، فعندما رأى إبليس اللعين الرجس من كرامة الله لآدم وتعظيمه لقدره، وإسجاده الملائكة من أجله، ولما أظهر فيه من عجائب تدبيره وصنعه، حسده على ذلك غاية الحسد حتى أخرجه حسده لآدم (إلى الكفر) بربه، وخالف فيما ترك من السجود عن أمره، ثم خشي أن يؤاخذه الله تعالى مغافصة على ذنبه، فطلب الإنظار والتأخير من ربه، فأنظره وأمهله الله إلى يوم حشره.
ولو حجب الله علم آدم وذريته عن الملائكة لم يكن ليعلمه إبليس ولا هم. وليس إعلامه إياهم سبحانه أنه سيجعل لآدم ذرية إلا كإعلامه - من قبل إيجاده لآدم - بآدم حين يقول عز وجل: ?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً?[البقرة:30]، وكما أعلمنا في كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، يما يكون في دار الآخرة من الثواب والعقاب والمجازاة بين العباد، وليس على الله في ذلك من حجة كبيرة ولا صغيرة.
وأما ما سأل عنه من استكبار إبليس، وقال: ممن هو؟ أمن الله؟ أم منه؟ أم من غيره؟(1/385)


فسبحان الله! ما أبين جهل من شك في هذا! أيتوهم أو يظن ذو عقل أن الله ألزم إبليس التكبر والاجتراء عليه فأدخله قسراً فيه؟ وهو يسمع إخبار الله في ذلك عنه، وأنه نسب التكبر إليه، فقال سبحانه: ?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ?[البقرة:34]، فذكر أن الاستكبار والكفر من فعل إبليس الكافر المستكبر، ولو كان الله أدخله في الاستكبار فاستكبر، وقضى عليه بالكفر فكفر، لم يقل فيه: ?وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ?، ولكان أصدق الصادقين يقول فيه: إنه أطوع المطيعين. وما كان من استكبار إبليس فهو كاستكبار غيره من الناس، قال الله سبحانه: ?وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ?[الأحقاف:20]، ولو كان الكبر والفسق من الله فيهم فعلاً، وله سبحانه عملاً، لم يجزهم عذاب الهون على فعله الذي أدخلهم فيه، بل كان يثيبهم عليه ويكرمهم لديه.(1/386)


المسألة الثالثة: أكانت محبة الله ومشيئته في دخول آدم وزوجه الجنة أم في خروجهما؟
ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد، المسألة عن آدم عليه السلام، وزوجته، فقال: خبرونا عن آدم وزوجته حين أسكنهما الله الجنة، أكانت محبة الله ومشيئته لهما في دخولهما فيها، وإقامتهما أم في خروجهما منها؟
فإن زعموا أن محبة الله ومشيئته كانت في خلودهما؛ فقد كذبوا، لأن أهل الجنة لا يموتون ولا يتوالدون ولا يمرضون ولا يجوعون ولا يخرجون، وقد قضى الله الموت على خلقه جميعاً، وقضى على آدم أن تكون له ذرية تكون منهم الأنبياء والرسل والصديقون والمؤمنون والشهداء والكافرون، ثم قال: ?فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ?[الأعراف:25]، ثم قال: ?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى?[طه:55]، وكيف يكون ما قالوا، وقد قضىالله القيامة والحساب والموازين والجنة والنار، سبحان الله! ما أعظم هذا من قولهم.
وإن قالوا: إن محبة الله ومشيئته كانت في خروج آدم وزوجته من الجنة وهبوطهما إلى الأرض، فقد زعموا أنه لم يكن ليخرجهما من الجنة إلا الخطيئة التي عملاها، والأكل من الشجرة التي نهيا عنها، فقد أقروا لله بقدرته ونفاذ علمه، وفي ذلك نقض قولهم.
تمت مسألته
[جوابها:](1/387)

77 / 172
ع
En
A+
A-