ما خلق من السماوات والأرض وأنفسهم وما ذرأ وبث، فيعلموا أن لهذا خالقاً ومدبراً فيؤمنوا، وكذلك الأفئدة أراد بجعلها لهم إذ أوجدها فيهم أن يفكروا ويدبروا فيعتبروا ويميزوا فيهتدوا، ولو كان سبحانه وتعالى عن ذلك المتولي لفعل أفعالهم لم يحتاجوا إلى الإسماع والتبصير والتفكير، إذ كان الله المتولي لإنفاذ ما أرادوا، والممضي دونهم لكل فعل منهم، ولم يقل عز وجل: ?فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم?، وكيف يستمعون إذا أسمعوا، ويستبصرون إذا أبصروا، وينتفعون إذا فكروا، وهم لا ينالون ذلك ولا يقدرون عليه، وغيرهم الفاعل له المصرف لهم فيه؟
فتعالى من فِعله غير فعل خلقه، ومن أمر عباده باتباع حقه، ألا تسمع كيف قوله سبحانه، وإخباره عن المؤمنين والفاسقين، فقال: ?مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا?[النحل:30]، وقال في الفاسقين: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ?[النحل:24]، فمدح المؤمنين على ما قالوا من الصدق في رب العالمين، وذم الفاسقين على قولهم الباطل في أحسن الخالقين. ولو لم يكن العباد متخيرين، ولا مما أرادوا متمكنين، وكان الحامل لهم على أفعالهم، المدخل لهم في كل أعمالهم رب العالمين، لكان هو القائل لما نزل من الحق: ?أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ?، ولم يكن القائلون بما قالوا من قولهم، والناطقون بما أنطقهم - عند العدل الجواد الرؤوف الرحيم بالعباد - بمذمومين، ولا عليه بمعاقبين، ففي أقل من ذلك حجة لذوي الإيمان المميزين.
وأما ما قال: من أنهم إن كانوا صلوات الله عليهم، قادرين على التبليغ والترك، وكان تبليغهم اختياراً منهم للطاعة على المعصية، ولرضاه على سخطه، فما يدريكم لعلهم قد تركوا وبدلوا وغيروا وخانوا (أو ستروا واجباً) وخالفوا؟(1/378)


قيل له: في ذلك من الحجة، والحمدلله، أبين البيان، وأنور القول والبرهان، ألا تعلم أيها السائل أن الله سبحانه لا يزكي إلا زكياً رفيعاً، ولا يذكر بالطاعة إلا سامعاً مطيعاً ولا بالأداء إلا مؤدياً. وقد وجدنا الله سبحانه ذكر في توراته التي أنزلها على موسى بن عمران تبليغ من بعثه من أنبيائه بوحيه، من نوح وإبراهيم وغيرهما، وأثنى عليهم بذلك، وحض موسى صلوات الله عليه على الاقتداء بهم، والإيثار لما آثروا من الطاعة لربهم، ثم قص قصة موسى صلى الله عليه، وذكر فضله وتبليغه وصبره واجتهاده، وفعله في الإنجيل الذي أنزله على عبده المسيح، المطهر من كل قبيح، صلوات الله عليه، ثم قص قصة عيسى على محمد، وذكر له قصته من اجتهاده وتبليغه، وتبليغ غيره من الرسل، فقال: ?وَإذ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ?[الصف: 6]، فصدق بما جاء به موسى، وبشر بما أمر من التبشير به من البشير النذير، الرؤوف بالمؤمنين الرحيم محمد الرسول الكريم، ثم ذكر لنا في كتابه أن رسوله قد بلغ وأنذر، وأخبر أنه قد أدى كل ما يجب عليه، فقال: ?مَا عَلَى الرَّسُولِ إلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ?[المائدة: 99]، وقال: ?فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ?[الذاريات: 54]، ولو كان منه صلى الله عليه وآله غير الاجتهاد لم يقل سبحانه: ?فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ?، فقد برأه الله من كل دنس ولوم.
فقد بطلت حجة من أراد الطعن على الأنبياء المهتدين، المؤدين لأمر الله الخانعين، بما قال عنهم وذكر فيهم رب السماوات والأرضين، والحمد لله وسلامه على المرسلين.
(تمت المسألة)(1/379)


المسألة الثانية: من أخطر المعصية على بال إبليس وكيف علم إبليس عن ذرية آدم؟
ثم أتبع هذه المسألة، فقال: أخبرونا عن إبليس، ما أخطر المعصية على باله؟ أو من أوقع التكبر في نفسه؟
فإن قالوا: نفسه أمرته بالمعصية، وهواه حمله على التكبر.
فقل: من جعل نفسه أمارة بالمعصية، وهواه حاملاً على التكبر؟
فإن قالوا: الله؛ كان ذلك نقضاً لقولهم.
ويقال لهم: فمن أعطاه علم الخديعة والمكر؟ آلله جعل ذلك في نفسه؟ أو شيء جعله هو لنفسه؟
فإن قالوا: الله جعل ذلك له؛ كان ذلك نقضاً لقولهم. وإن قالوا: إن ذلك لم يكن من الله عطاء ولا قسماً؛ فقد دخل عليهم أعظم مما هربوا منه حين زعموا أن غير الله يجعل في خلقه ما لم يرد الله أن يكون فيهم، فما أعظم هذا من القول!!
وسلهم: من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية، وأن الموت يقضي عليهم، وأنه يكون بينهم لله عباد مخلصون، وأنه يحتنكهم إلا قليلاً منهم؟
فإن قالوا: إن الله علمه ذلك؛ فقد نقض ذلك قولهم. وإن قالوا: إن إبليس علمه من قبل نفسه؛ فقد زعموا أن إبليس يعلم الغيب، فسبحان الله العظيم.
[جوابها:]
وأما ما سأل عنه، وقاله من أمر إبليس فقال: من أخطر المعصية على باله؟ ومن أوقع التكبر والمكر والخديعة في نفسه؟(1/380)


فإنا نقول في ذلك: إن الله أعطى إبليس من الفهم واللب ما يقدر به على التمييز بين الأمور، ويعرف به الخيرات من الشرور، ويقف به على الصالح من ذلك والطالح. وإنما أعطاه الله ذلك، وجعله وكل الخلق المتعبدين كذلك لأن يعرفوا قوله ويعرفوا ما افترض الله عليهم وعليه، فيتبع ذلك دون غيره، ويثابر عليه، ويعرف ما يسخط الله فيتجنبه ويتقيه، ويحاذر انتقامه فيه. ولو لم يعطه وغيره ذلك لم يهتدوا أبداً إلى فعل خير ولا شر، ولا تخير طاعة، ولا إيثار هوى، ولا اتباع تقوى، ولو كان الخلق كذلك لكان معنى الثواب ساقطاً عنهم، ولما جرى أبداً عقاب عليهم، ولو لم يجر عقاب ولم يُنَل ثواب لم يُحتَج إلى جنة ولا نار، ولما وقع تمييز بين فجار ولا أبرار، وقد ميز الله ذلك فقال: ?لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ?[الحشر:20]، ولو كان ذلك كذلك لكان معنى الملك والتمليك عند الله سبحانه ساقطاً هنالك. ولكنه سبحانه لما خلق الخلق لم يكن للخلق بد من عمل، ولم يكن العمل كله لله رضاً، ولا كله سخطاً طراً معاً، ولما كان من الأعمال مرضٍ لله ومسخط، لم يكن بد من الأمر بالعمل المرضي، والنهي عن العمل المسخط. فلما كان ذلك كذلك لم يكن بد من الترغيب على العمل الصالح بالثواب، والترهيب على العمل الطالح بالعقاب، فجعل الجنان ترغيباً، والنيران ترهيباً. وترهيب الشيء من الشيء الذي لا يستطيع أن يرهبه محال، كما أن ترغيب الشيء فيما لا يقدر على أن يرغب فيه فاحش من الفعال، ولا يكون ترغيب إلا لمن يقدر على الرغبة، ولا ترهيب إلا لمن يقدر على الرهبة، ولا أمر ولا نهي إلا لمن يميز بين المأمور به والمنهي عنه. فجعل الله وركب فيهم استطاعة وتمييزاً، ليعرفوا رضاه فيتبعوه، ويفهموا سخطه فيتجنبوه، فيثيبهم أو يعاقبهم على ما يكون من أفعالهم باختيارهم؛ لأن المثيب على فعله إنما هو مجاز لنفسه، ثم أمرهم عز وجل(1/381)


ونهاهم، ثم قال: ?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ?[الكهف:29]، ولو لم يعلم أن له مشيئة وتمييزاً واقتداراً على الفعل والترك لم يقل: ?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ?، وقال سبحانه: ?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا?[مريم:12]، ولو لم يكن فيه استطاعة مركبة قبل الأمر، ولم يكن قادراً على أخذ الكتاب، لم يقل ?خُذِ?، وهو لا يقدر على الأخذ؛ لأن القائل للحجارة، وما كان مثلها، يقال: مخطئ محيل في المقال، فتعالى الله عن ذلك. وقال: ?قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ?[الجاثية:14]، ولو لم يكن المؤمنون يقدرون على الغفران لمن أمروا بالمغفرة له لم يقل: ?يَغْفِرُوا?، وكان يحدث فيهم الغفران لأولئك، فيغفروا، ولم يكن ليأمرهم من الأمر بما لا يطيقون.(1/382)

76 / 172
ع
En
A+
A-