الدعوة، الذي لا يغافص من عصاه، ولا يخيب أبداً من رجاه، يقبل اليسير الصغير، ويعطي عليه الكثير، الذي لم يزل قادراً ولا يزال، فسبحان ذي القدرة والعز والجلال.
أحمده على نعمائه، وأعوذ به من بلوائه، وأستجير به من نقمته، وأستديمه لنعمته، الذي شملت خلائقه نعماؤه، وتظاهر عليهم إحسانه وآلاؤه، سائق كل غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وأزل. أشهد له سبحانه بالربوبية والعدل والصدق والوحدانية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب، الغافر لمن تاب من موبقات الذنوب، البريء المتعالي عن كل نصب ولغوب، البائن عن الصفات، فليست تحده القالات، ولا تنقصه الساعات، ولا تعروه السنات، المحمود في كل الحالات.
وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله، الداعي إليه، بعثه سبحانه بحجته، واستنقذ به من النار أهل طاعته، بعثه في طامية طمياء، ودياجير مظلمة عمياء، وأهاويل فتنة دهماء، فدفع فنيق الكفر والفساد، وأنهج سبيل الحق والرشاد، وأدحض عبادة الأوثان، وأخلص عبادة الرحمن، وصدع بأمر ربه، وأنفذ ما أمره به، ودعا إليه علانية وسراً، وأمر بعبادته سبحانه جهراً، صابراً على التكذيب والأذى، داعياً لهم إلى الخير والهدى، حتى قبضه الله إليه، وقد رضي عمله، وتقبل سعيه، وغفر ذنبه، وشكر فعله، فصلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار.
ثم نقول، بعد الحمد والثناء عليه، والصلاة على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
أما بعد..(1/373)


فإنه وقع إلينا كلام الحسن بن محمد بن الحنفية، يؤكد فيه الجبر، ويشدد في ذلك منه الأمر، ويزعم فيه أن الله سبحانه جبر العباد أجمعين، من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، وجميع الثقلين، على كل الأعمال، من صالح أو فاسد أو طالح، فرأينا أن نجيبه في ذلك، وننقض عليه ما جاء به من المهالك، ونثبت عليه في ذلك كله، لربنا وسيدنا وخالقنا ما هو أهله مما هو عليه، وما لا يجوز لخلق الله، أن يقول بغيره فيه، فاختصرنا له في قوله الجواب، وتركنا - خشية التطويل - كثيراً من الأسباب. فلينظر من نظر في قولنا وقوله، وجوابنا لسؤاله بلب حاضر، ورأي حي صادر، يبن له الحق إن شاء الله، ويثبت في قلبه الصدق. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين، محمد، خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين وسلم.(1/374)


المسألة الأولى: عن استطاعة الرسل من بني آدم ترك البلاغ وتغيير الوحي
فكان أول ما سأل عنه أن قال: أخبرونا عن رسل الله، من بني آدم، هل جعل الله لهم السبيل والاستطاعة إلى ترك البلاغ؟ ولو شاءوا لغيروا ما أُمروا به من تبليغ الوحي والعمل بالسنن؟ أو ألزموا على ذلك إلزاماً، فلا يستطيعون على تركه ولا الزيادة فيه ولا النقصان منه؟
فإن قالوا: نعم، قد جعل الله لهم سبيلاً واستطاعة لترك البلاغ، فلوا شاءوا لغيروا ما نزل إليهم من كتابه وحكمته؛ فقد دخلوا في أعظم مما كرهوا حين زعموا أن الرسل لو شاءوا لم يعبدوا الله بالتوحيد، ولم يعملوا له بطاعة، إذ زعموا أنهم كانوا يقدرون على كتمان الوحي والسنن.
فيقال لهم: وأنتم الآن لا تدرون هل بلغت الرسل كل ما جاءهم من الوحي والسنن أم لا؟
فإن قالوا: نعم، يقدر الرسل على كتمان الوحي والسنن إذا أرادت ذلك؛ احتُج عليهم. وإن قالوا: لم يكن الرسل يقدرون على كتمان الوحي ولا إبدال الفرائض ولا ترك البلاغ، لأن الله ألزمهم البلاغ إلزاماً، فلا يقدرون على تركه وكتمانه؛ فقد أجابوا، وفي ذلك نقض لقولهم.
[جوابها:]
بسم الله الرحمن الرحيم
فكان أول ما سأل عنه، أن قال: أخبرونا عن قولكم فيما نسأل عنه، نبئونا، هل الأنبياء صلوات الله عليهم، مستطيعون لعمل فعلين متضادين في حالين مختلفين؟(1/375)


وقولنا في ذلك، والله الموفق لكل رشد وخير، والدافع لكل سوء وضير: أن رسل الله صلوات الله عليهم، قد أدوا ما أمرهم الله بأدائه، على ما أمرهم، لم يشبهم في ذلك تقصير، ولم يتعلق عليهم في ذلك من التفريط جليل ولا صغير، وأنهم كانوا في ذلك كله لأمر الله مؤثرين، وعلى طاعته سبحانه مثابرين، وأن الله سبحانه لم يكلفهم أداء الرسالة حتى أوجد فيهم ما يحتاجون إليه من الاستطاعة، ثم أمرهم بعدُ ونهاهم، وكلفهم من أداء الوحي ما كلفهم، فبلَّغوا عنه ما به أمرهم على اختيار منهم لذلك، وإيثار منهم لطاعته، وحياطة لمرضاته، لم يكن منه جبر لهم على أدائه، ولا إدخال لهم قسراً في تبليغه، بل أمرهم بالتبليغ فبلغوا، وحثهم على الصبر فصبروا، فقال سبحانه: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ?[المائدة:67]، فقال: ?بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ?، ولو لم يكن التبليغ منه صلى الله عليه وآله، باستطاعة وتخيير، لم يقل له: ?بَلِّغْ?؛ إذ الأمر لمن لا يقدر أن يفعل فعلاً حتى يُدخَل فيه إدخالاً، ويُقلَّب فيه تقليباً محال؛ لأن الفاعل هو المُدخِل لا المُدخَل، والمقلِّب لا المقلَّب. فلم يأمر الله عز وجل أحداً بأمر إلا وهو يعلم أنه يقدر على ضده، فحثه بأمره على طاعته، ونهاه عن معصيته، ألا تسمع كيف يقول: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ?[الأحقاف:35]، فأمره باحتذاء ما فعل مَن هو قبله مِن الرسل، مِن الصبر على الأذى والتكذيب، والشتم والترهيب، ولو كان الله سبحانه هو المدخل لهم في الصبر إدخالاً، ولم يكن منهم له افتعالاً، لقال: صبرناك كما صبرناهم؛ ولم يقل: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ(1/376)


أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ?. وكيف يأمر ذو الحكمة والفضل مأموراً بما يعلم أنه يفعله من الفعل؟ فجل الله عن ذلك، وجل عن أن يكون كذلك. فهل سمعه من جهله سبحانه يأمر أحداً من خلقه أن يفعل شيئاً مما هو من فعله مما يتولى إحداثه فيهم، ويقضي به تبارك وتعالى عليهم، مما ليس لهم فيه فعل، ولا افتعال، ولا تصرف بإدخال ولا إخراج، مثل الموت والحياة، وإيجاد السمع والبصر والأفئدة؟! بل ذكر ذلك كله عن نفسه، وأضاف فعله إليه بأسره، فقال: ?إنا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ?[ق:43]، ولم يأمرهم أن يموتوا ولا بأن يحيوا. وقال سبحانه إخباراً عمن سلف، وتوقيفاً واحتجاجاً على من جاء بعدهم وخلف: ?وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون?[الأحقاف:26]، فقال: ?جَعَلْنَا لَهُمْ?، ولم يقل: اجعلوا ولا تجعلوا. ثم قال: ?فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ?، فأراد سبحانه منهم إذ فعل لهم الأسماع أن يفعلوا هم الاستماع بها، فيستمعوا ما جاء به الرسول من أخبار من هلك من قبلهم، وإنذار من أنذر ممن هو أشد منهم بطشاً فلم يقبل الهدى فأُهلك، قال سبحانه: ?وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ?[ق:37]، فأراد إذ فعل لهم سمعاً أن يسمعوا به أخبار من نزل به ما نزل، فينتهوا، ويسمعوا لرسله ويطيعوا ويسلموا للحق ويجيبوا، وكذلك إذ فعل لهم أبصاراً أراد أن يبصروا بها إلى(1/377)

75 / 172
ع
En
A+
A-