ومن الحجة عليهم، أيضاً، التي لا يجدون لها نقضاً، ولا بد لهم عندها من أن يكذبوا أنفسهم وقولهم، أو يلزموا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المعصية والتعدي فيما أمره الله به، يقال لهم: أخبرونا عن محمد عليه السلام حين أمره الله بدعاء الناس كافة إلى عبادته والعمل بفرائضه، فوجدهم صلى الله عليه وآله وسلم على ما كانوا عليه وبه عاملين من عبادة النار والحجارة والأصنام والأنداد، وأكل الربا وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقتل الأطفال، وسفك الدم الحرام، والقول إن الله ثالث ثلاثة، وإن له ولداً وصاحبة، وإنه بخيل، وإن يده مغلولة، وما أشبه هذا القول من الفواحش؛ أمرهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم ذلك، وحثهم على العمل به والاجتهاد فيه؟ وأمر أيضاً من وجده يعبد الله وحده، ويقول إنه ليس معه شريك، ولا له شبيه، ويسجد له من دون المعبودات كلها، ويحرم الزنا، والربا، وأكل مال اليتيم، وقتل الطفل، ويأمر بخلع المعبودات كلها من دون الله، أمرهم بلزوم ما هم عليه، وحثهم على أدائه؟ لم يغير على أحد من العالمين شيئاً، ولم ينههم عن شيء، ولم يأمرهم بشيء غير الاجتهاد فيما هم فيه؟ فقد صدق من زعم أن جميع الأشياء من الله، وله رضا وقضاء وأمر ومشيئة. وإن كان صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن شيء مما ذكرنا من العملين وميز بين المنزلتين، وسمى أحدهما طاعة ووعد من عمل بها الجنة؛ وسمى المنزلة الأخرى معصية، وتوعد من عمل بها النار، فقد كذب من زعم أن كل شيء مراد الله وقضاء. فإن أحبوا فيكذبوا أنفسهم للزوم الحجة لهم، وإن أحبوا أن يقولوا إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عاص متعد عليه، ناه عن قضائه وأمره، وأن الله تبارك وتعالى لم يأمرهم بتحريم شيء مما حرم، وأن جميع ما حرم أحل منه بالتكليف منه لا من الله، نقض من قال بهذا كتاب الله عز وجل، إذ يقول له صلى الله عليه وآله وسلم: ?قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن(1/368)
رَّبِّي?[الأعراف:203]، وهذه الصفة والقول لا يجوزان في محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا له.
ومن الحجة عليهم أن يقال لهم: أخبرونا عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكان عندكم رؤوفاً رحيماً حريصاً على العباد شفيقاً مريداً لهم أن يطيعوا الله ولا يعصوه؟ وعن قول الله سبحانه فيه: ?لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ فإن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ?[التوبة:128]، أكان كذلك أم كان عندكم على غير هذه الصفة من قلة الرأفة والرحمة والحرص؟ فلن يجدوا بداً من أن يقولوا: كان صلى الله عليه وآله وسلم رؤوفاً رحيماً، كما وصفه الله، فحينئذ يقال لهم: فأين الرأفة والرحمة ممن يأمر العباد بترك طاعة الله، والخروج عن مشيئته ومراده، والرد لقضائه وأمره، وكيف يكون عندكم حال من نهى عما ذكرنا وحال من أطاعه في ترك ما ذكرنا مما هو لله مشيئة ومراد؟ وأين الرأفة والرحمة ممن يأمر العباد بما لهم فيه الهلاك والغضب عند الله؟ هذا قولٌ ينقض القرآن ويفسده، وهو حجة الله العظمى على عباده، وفيه تحريم ما حرم وتحليل ما أحل، فإذا كان المؤدي له في قولكم وعلى مذهبكم ينهى عن طاعة الله ومشيئته فكيف السبيل عندكم أن يوثق به فيما أدى إلينا من تحليل وتحريم إذ كان ينهى عن قضائه ومراده، فقد احتمل إن كان يفعل ذلك بلسانه أن يفعله ومثله في الكتاب الذي أداه فيحلل الحرام ويحرم الحلال.(1/369)
تعالى الله عما أسند إليه أهل هذه المقالة الحمقاء من التلعب بعباده والعبث بخلقه، وجل شأن محمد عليه السلام أن يكون فيه شيء من هذه الصفة، أو يكون على شيء مما يكره الله سبحانه. بل لم يزل صلوات الله عليه ناهياً عن نهي الله داعياً إلى أمر الله، مستقلاً في ذلك كله بعداوة الآدميين والناس أجمعين، باذلاً لنفسه، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى قبضه الله إليه وقد غفر ذنبه وشكر فعله صلوات الله عليه وعلى آله.
فميز يا بني القولين، وفكر فيما بين المنزلتين، تصح لك الحجة، ويبن لك الحق؛ لأن الحق غير خفي على ذي مرة سوي.
نسأل الله التوفيق والتسديد، ونعوذ به مما أسند إليه المبطلون وقال به فيه الجاهلون. فكل من قال على الله سبحانه شيئاً مما ذكرنا وأسند إليه سبحانه ما حكينا من قول أهل الضلالة والردى، والحيرة والعمى، فما عرف الله العلي الأعلى في شيء من أيام الدنيا، وهو عند الله من أجهل الجاهلين، وأكفر الكافرين، وأضل الضالين؛ لأنه قد نسبه سبحانه إلى أقبح صفات المخلوقين المستهزئين العباثين المتفكهين بعباد الله، الحاكمين فيهم بغير حكم الله، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
تم الكتاب والحمد لله رب الأرباب، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله الطيبين وسلم، (وحسبنا الله ونعم الوكيل).(1/370)
كتاب الرد على الحسن بن محمد بن الحنفية
بسم الله الرحمن الرحيم(1/371)
مقدمة الكتاب
الحمد لله الذي علا على الأشياء بطوله، وتقدس عن مشابهة المخلوقين بحوله. الذي علا فقدَر، وقدر فقهر، وعُصي فغفر، وأُطيع فشكر. الذي لا مثل له فيساويه، ولا ضد له فيناويه. الذي لا تدركه الأبصار، ولا تجن منه الأستار. العالم بما تجن قعور البحور، وما تكن جوانح الصدور، العالم بما سيكون - سبحانه - من قبل أن يكون. اللطيف الخبير، السميع البصير، الجليل الحكيم، الكريم الرحيم. الذي دنا فنأى، ونأى سبحانه فدنا، رابع كل ثلاثة، وسادس كل خمسة، الداني من الأشياء بغير ملامسة، المحيط بها من غير مخالطة، العالم بباطنها من غير ممازجة، فعلمه بما تحت الأرضين السفلى كعلمه بما فوق السماوات العلى. الموجد للأشياء من غير شيء، وجاعل الروح في كل حي. خلق خلقه حين أراده، وإذا شاء سبحانه أباده، بلا كلفة ولا اضطرار، ولا بتخيل ولا إضمار، ولا حاجة منه إلى الأعوان، إذا أراد إيجاد شيء كان، بلا كلفة. البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، الذي لم يلده والدٌ فيكون مولوداً، ولم يلد ولداً فيكون لذلك محدوداً، الخالق غير مخلوق، والرازق غير مرزوق. الذي بقدرته قامت السماوات بغير عماد، وفرش لعباده الأرض ذات المهاد، فاستقلت الأقطار، وسجرت البحار، وهطلت الأمطار، ونبتت الأشجار، وجرت الأنهار، وأينعت الثمار، فالق الحب والنوى، ومالك الآخرة والدنيا، زارع كل ما يحرثون، ومنزل الماء الذي يشربون، وخالق النار التي يورون، محصي الأعمال، ومؤجل الآجال، ومجري الأرزاق، ومسبب الأرفاق. الصادق في كل قول قوله، النافذ في كل شيء فعله، الذي أمر ونهى، فأمر بالتقوى، وزهد في الدنيا، ونهى عن العصيان، وحض على الإحسان، وخلق ثواباً وجعل عقاباً، فأعد للمطيعين الجنان، وأجج للعاصين النيران ?لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى?[النجم:31]، قابل التوبة، مقيل العثرة، مجيب(1/372)