وزعم هؤلاء القوم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الله ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام يدعون عباد الله إلى عبادة الله، ولعمري إن ذلك كذلك، قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا?[الأعراف:158]، وقال موسى وهارون عليهما السلام، لفرعون لعنه الله: ?إنا رَسُولا رَبِّكَ?[طه:47]، وقال: ?وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ? [الصافات:147]، معناها: ويزيدون؛ لأن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية ولا تعروه سنة ولا يدخل [عليه] شك، وهذا في أشعار العرب كثير، قال الشاعر:
بكيت على عمير أو عقاق
فلو كان البكاء يرد ميتاً
ثم قال مبيناً أنه يبكي عليهما جميعاً في البيت الثاني:
لشأنهما بحزن و احتراق
على المرئين إذ هلكا جميعاً
فأقام (أو) مقام (الواو). وكذلك قال عز وجل: ?إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ?[يس:14].(1/363)
فإذا كان الأمر على ما قال هؤلاء الظالمون: إن الله تبارك وتعالى قضى على قوم بالمعصية لا يقدرون يعملون غيرها ولا يخرجون منها إلى شيء من الطاعة ولا من أعمال البر؛ وقضى على آخرين بالطاعة له وبالعمل بما يرضيه لا يقدرون يخرجون من الطاعة إلى العمل بشيء من المعصية؛ ممنوعاً من ذلك الفريقان، وكان مُستعملاً فيما حتم في رقبته وقضى عليه لا يطيق الخروج منه إلى غيره، فإلى من أرسل الله الأنبياء والمرسلين، وإلى من دعوا؟ ومن خاطبوا؟ وعلى من احتجوا؟ أم من تبعهم وأطاعهم؟ أم من كانت حاجة العباد إليهم؟ أم ما كان المعنى عند الله سبحانه في إرسالهم؟ أتراه أرسلهم عبثاً أم سخرياً؟ أم بياناً وتوكيداً للحجة على العباد وتوقيفاً؟ فإن كان سبحانه أرسلهم إلى قوم وقد منعهم من طاعته؛ يدعونهم إلى الدخول فيها وقد حال بينهم وبين ذلك ومنعهم؛ طالباً للحجة عليهم بلا حجة لازمة بينة، فهذا أكبر الظلم وأحول المحال.
ليس أحكم الحاكمين يعبث ولا يغلو ولا يسخر ولا يستهزي، ولا خلق الجنة والنار باطلاً، ولا أرسل المرسلين عبثاً.(1/364)
لو كان الله سبحانه على ما يقولون؛ ما أرسل إلى خلقه رسولاً، ولا دعاهم إلى طاعة، ولا دلهم على ما يرضيه مما يسخطه، ولا احتج عليهم بالآيات المعجزات، ولا بالبراهين الواضحات التي عجز عنها جميع الكهنة والسحرة، والفراعنة وشياطين الإنس والجن فلم يقدروا أن يأتوا منها بشيء، مثل التسع آيات التي كانت مع موسى عليه السلام، والمعجزات التي جاء بها غيره من الأنبياء، كل هذا احتجاج من الله سبحانه على خلقه، ليطيعوا أنبياءه ورسله، ويجيبوهم إلى خلع الأنداد والأصنام والأوثان والآلهة المعبودة من دونه. ولكن الله سبحانه مكنهم وفوضهم، وأرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى ما هم قادرون عليه، ويندبونهم إليه ليخرجوهم بذلك من ظلمة الشرك إلى نور الإسلام. ألا ترى إلى قوله عز وجل: ?اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[البقرة:257]، فلولا أن الله تبارك وتعالى قد علم أن عباده يقدرون على طاعة رسله ما أرسلهم إليهم، ولا أمر بطاعتهم ولا حثهم على أداء ما جاءوا به من فرائضه، وما دعوا به من اتباع مرضاته، وذلك لما مكنهم الله منه، وجعل فيهم من القوة والاستطاعة ليركبوا بها طبقاً عن طبق، تفضلاً منه عليهم، وإحساناً منه إليهم، وإكمالاً للحجة فيهم وعليهم لئلا يكون لأحد على الله حجة بعد رسله، وما شرع من فرائضه، وما دعا إليه من طاعته، وحذر من معصيته، وذلك قوله: ?لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165].(1/365)
ومن أكبر عجائبهم أنهم يزعمون أن الله تبارك وتعالى قضى على العباد بالمعاصي قضاء حتماً لا يمكنهم الخروج من ذلك القضاء، وقدره عليهم وشاءه لهم؛ ثم زعموا مع هذا القول أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أُرسل إلى الناس كافة، وأن كل ما أمر به أو نهى عنه من تحليل شيء أو تحريم آخر لله رضى وطاعة ومراداً ومشيئة، إذ رجعوا فأكذبوا أنفسهم وطعنوا على نبيهم فزعموا أن جميع ما نهى الله عنه قضاء ومراد ومشيئة.
فانظر - يا بني - ما بين هذين القولين من التناقض والعمى والحيرة، بينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحث على طاعة الله والقيام بأمره والأداء لفرضه، إذ صار ينهى عن جميع ذلك.
وانظر إلى ما هو أعجب من هذا، قولهم في إبليس - لعنه الله - يزعمون مرة أنه لله عاص وعليه مفتر، بل قد افترض عليه ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وتارة يزعمون أن إبليس لله ولي يدعو إلى قضائه في معنى قولهم، وما تلزمهم إياه الحجة. وإن كانوا غير مصرحين بولايته لله غير أنهم زعموا أن جميع الفواحش التي يدعو إليها إبليس شاءها الله وأرادها، ومن كان إلى طاعة الله ومشيئته ومرداه داعياً، فهو ولي لله مطيع، فمرة (عندهم إبليس مطيع، ومرة) عدو مفتر.(1/366)
وانظر أيضاً إلى هذا التمييز وهذه العقول التي جعلوا بها سبيل محمد وسبيل إبليس سواء، حتى جعلوا الصفة فيهما واحدة متشابهة كلاهما، وهو عندهم يدعو إلى قضاء الله وأمره ومراده، ويصدقون محمداً عليه السلام مرة فيما جاء به من القرآن والدعاء إلى الله وإلى أمره ومراده. ومرة أخرى يكذبون ذلك ويقولون إن المعاصي من الله، وإن الله شاءها وأرادها من العباد، وإنه عليه السلام نهى عن مشيئة الله وإرادته. فإن كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عما ذكروا أن إبليس يدعو إلى ذلك الذي أراده الله من العباد فلا تراه في قياسهم لله عاصياً، ولا عليه مفترياً إذ كان في الدعاء إلى قضاء الله مجتهداً، ومن كانت هذه سبيله فهي غير سبيل العاصين، ولا أعرف - كما قلنا وعلى قولهم - بينه وبين محمد عليه السلام فرقاً في الدعاء إلى قضاء الله، خاصة إذ كان محمد يدعو إلى بعض قضاء الله، ثم أمر ونهى بزعمهم عن بعض قضاء الله وأمره، وكذلك إبليس - لعنه الله - يدعو على قولهم إلى بعض قضاء الله وأمره وينهى عن بعض قضاء الله وأمره، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نهى عما يدعو إليه إبليس من هذا القضاء، وإبليس - لعنه الله - يدعو إلى ما ينهى عنه محمد، وكلاهما عدو الآخر.
فيا سبحان الله!! ماذا بينهما من التباعد! وما أشد اختلافهما، وأبين تناقض أمرهما عند أهل المعرفة والعقل، وأخبث قولهم هذا الذي قالوا به.(1/367)