وقال أيضاً لنبيه عليه السلام: ?لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ? [التحريم:1]، أفترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حرم ما أمر الله بتحريمه، وقدره عليه وقضاه له ثم يستخبره عن ذلك التحريم فينهاه عنه ويعاتبه فيه، ويعيبه عليه، وهو الذي أدخله فيه وقضاه عليه؟! معاذ الله أن يكون هذا أبداً، لكن هذا التحريم كان من فعل محمد لا من فعل الله. ألا ترى إلى أمر الله سبحانه له بترك ما لم يرضه من فعله في ذلك، وأمره أن يرجع إلى ما أحل له، ويكفر يمينه، فقال: ?قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ?[التحريم:2].(1/353)
ثم قال سبحانه: ?وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ? [ق:23- 26]، ثم قال سبحانه: ?قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ?[ق:27- 29]، وقال: ?الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ?، أفترى الله سبحانه الذي أضله وأمره أن يجعل معه إلهاً آخر ثم يقول ?أَلْقِيَاهُ?، يعني: الضال والمضل؟ أفتراه أراد بهذا نفسه؟ إذ كان في قولهم أنه المضل لهم والمدخل لهم فيما دخلوا فيه من خير وشر، فكيف وقد تبرأ في آخر الآية، فقال: ?لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ?، ولم يقل سبحانه: لا تخاصموني ولا تحتجوا عليَّ؛ لأنهم لم ينسبوا إليه شيئاً من الظلم ولا من الضلال لهم، ولا من إدخالهم في شيء مما نهاهم عنه، وإنما نسب ذلك بعضهم إلى بعض. ولو نسبوا إليه كانت الخصومة معه لا مع غيره، وكانت الحجة لهم، والقول عليه؛ ألا ترى إلى قول المذنب الذي جعل مع الله إلهاً آخر كيف يلزم الذنب غير ربه؟ وكيف لم يقل: أمرني ربي أن أجعل معه إلهاً غيره؟ ثم قال: ?كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ?، أفترى أن هذه الصفات القبيح وصف الله بها نفسه؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!!(1/354)
ثم قال سبحانه: ?وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ?، أفترى الله سبحانه أراد بذكر الشركاء غيره من المغوين أم نفسه بهذا التزيين؟ فإن كان شركاؤهم هم غيره، فقد برأ نفسه سبحانه أن يضل ويزين شيئاً (من المعاصي لأهلها، وإن كان هو الشركاء فقد عنى إذا نفسه) بهذا القول، وهذا غير معروف في اللغة، يذكر غيره ويخاطبه وهو يريد بالذكر نفسه، هذا محال في القول لا يقبله العقل.
وانظر إلى قوله فيما يحكيه عن الهدهد، فقال: ?وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ? [النمل:24]، ولم يقل زيَّن الله لهم السجود للشمس، ولا أنه صدهم عن السبيل.(1/355)
وكل نبي أو غيره ممن عقل يبرئ الله سبحانه من الذنوب ويستغفره منها، ويسند الخطأ فيها إلى نفسه، ألا ترى إلى قوله سبحانه لموسى صلى الله عليه: ?اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى? [النازعات:17ـ25]، أفترى الله تبارك وتعالى الذي أضل فرعون وأدبره عن الطاعة، ومنعه أن يتزكى، وأمره بالتكذيب والعصيان، وأن يدعي أنه الله الأعلى، وقد فطره الله على ذلك وحمله عليه، ثم أرسل إليه موسى صلوات الله عليه، يدعوه إلى أن يهتدي ويتزكى، وقد منعه منهما، وفطره على غيرهما، وحال بينه وبين العمل بهما، ثم يرسل إليه من أرسل، وأنزل به العذاب عندما كان من سعيه في طاعة الله وأمره؟ هذا أكبر الظلم وأقبح الصفة في المخلوقين، تعالى الله عما أسند إليه الجاهلون من هذه المقالة الفاسدة الضالة. ألا ترى إلى قول الله سبحانه: ?وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى?[طه:79]، ينسب الضلالة إلى فرعون والإضلال، ويبرئ منها نفسه.
وانظر أيضاً إلى قوله عز وجل: ?اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ? [البقرة:175]، يقول سبحانه: استحبوا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة، ممثلاً في ذلك بالبيع والشراء؛ لأنه في كلام العرب هذا المثل.(1/356)
وانظر أيضاً إلى قوله في ابن آدم: ?فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ? [المائدة:30]، ولم يقل سبحانه: قدرته ولا قضيته عليه، ولا أمرته ولا رضيته منه، بل برَّأ نفسه من فعله، وألزم المعصية أهلها وفاعلها، ألا ترى إلى قوله: ?فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ? أخبر أن ذلك الفعل من نفسه لا من غيرها.
وانظر إلى قوله تبارك وتعالى، يحكي عن نوح صلى الله عليه: ?رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وإن وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ?[هود:45]، أفتراه قضى هذا القول على نوح، ثم عابه عليه وعنفه فيه، فقال: ?إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ? [هود:46]. وانظر إلى تنزيه نوح عليه السلام لخالقه من ذلك، وإلزامه الذنب نفسه، فقال عليه السلام: ?رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ?[هود:47]، فأخبره أن هذه المسألة منه، فاستغفر منها (ولم يقل إنه قضاؤك وقدرك عليَّ، ولو كان قضاء الله عليه ما استغفر منها)، كيف يستغفر الله من فعله؟ إنما يتوب العباد إلى الله ويستغفرونه من أفعالهم لا من فعله، كذلك كل فاعل قبيح يتوب منه ويستغفر ربه من فعله، ولا يستغفر ربه من فعل غيره، ولا يُلزم الله من فعل غيره شيئاً.(1/357)