ولو أننا نظرنا في تاريخهم وسيرهم بغض النظر عن ما جاء فيهم، لكان ذلك كافياً لنا في أنهم أهل الدين وحرّاسه، وعموده وأساسه، وأن من أراد الحق كان تابعاً لهم صلوات الله عليهم، وأن من جانبهم أو عاداهم ما جانبهم ولا عاداهم إلا اتباعاً لهواه، طاعة لحقد دفين عليهم، أو حسداً في صدره عليهم ?أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا?[النساء:54].
وبهذا يظهر لك عدم صحة ما يتقوله من ينسبهم إلى المعتزلة، مع أن المعتزلة يفتخرون بانتسابهم إليهم، ويسندون مذهبهم إلى علي عليه السلام، وهؤلاء المتقولون ليس لهم دليل ولا ما يشبهه على نسبة مذهب أهل البيت عليهم السلام إلى المعتزلة إلا توافقهم في العدل والتوحيد.
ويكفي في الرد عليهم تصريح المعتزلة بإسنادهم لمذهبهم إلى علي علي السلام، وأيضاً السلسلة التي ذكرناها من أهل البيت متصلة إلى علي عليه السلام، يأخذ كل عالم من عالم أو علماء من أهله، لم تحصل فترة انقطاع حتى يأخذوا فيها عن غير أهلهم.
يقول الإمام أبو طالب عليه السلام في كتابه (الدعامة) - الذي طبعه الدكتور ناجي حسن تحت عنوان الزيدية للصاحب بن عبّاد وهو للإمام أبي طالب عليه السلام - ص(242) الطبعة الأولى (1986م)، طبع (الدار العربية للموسوعات) في الاستدلال على إمامة الإمام زيد عليه السلام ما لفظه:(1/32)
((فمنها [أي من خصال الإمامة فيه عليه السلام] اختصاصه عليه السلام بعلم الكلام، الذي هو أجلّ العلوم وطريق النجاة، والعلم الذي لا ينتفع بسائر العلوم إلا معه، والتقدم فيه والاشتهار عند الخاص والعام. هذا أبو عثمان الجاحظ يصفه في صنعة الكلام ويفتخر به، ويشهد له بنهاية التقدم فيه، وجعفر بن حرب يصفه في كتاب الديانة، وكثير من معتزلة بغداد كمحمد بن عبدالله الإسكافي، وغيره ينتسبون إليه في كتبهم ويقولون: نحن زيدية، وحسبك في هذا الباب انتساب المعتزلة إليه مع أنها تنظر إلى سائر الناس بالعين التي تنظر بها ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلاً، فلولا ظهور علمه وبراعته وتقدمه عليه السلام كل أحد في فضيلته لما انقادت المعتزلة له، وإذا أردت تحقيق ما قلناه فَسُمْ بعض تلامذتهم أو متوسطيهم أن ينسب إلى غيره من أهل البيت عليهم السلام ممن بعد، ممن لا تحصيل له في رتبة زيد عليه السلام، لتسمع منه العجائب.)) انتهى.(1/33)
المؤلف
وامتداداً لهذا النور وتواصلاً لهذه السلسلة المباركة كان وجود الإمام الأعظم، إمام اليمن، محيي الفرائض والسنن، وليس محتاجاً إلى تعريف فهو أعرف من المعرفة وأشهر من نار على علم، عَرَفه الخاص والعام، والعالم والجاهل، والمخالف والمؤالف، قام في اليمن باحياء الفرائض والسنن، وأباد البدع والمبتدعين، مقارعة بالحجة والبيان، وجهاداً بالسيف والسنان، لم تزل كراماته إلى هذا الزمن تترى، يعرفها العامة والعلماء، ونحن سنذكر هنا شيئاً من أحواله وفضائله تبركاً بذلك فنقول:
هو الإمام الهادي إلى الحق أبو الحسين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
أمه أم الحسن بنت الحسن بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ولد بالمدينة المنورة سنة خمس وأربعين ومائتين.
وكان له أهمية كبيرة بين أهله عليهم السلام منذ مولده لما فيه من الأخبار والبشارات به لديهم.
فقد حمل حين ولد إلى جده القاسم عليه السلام فوضعه في حَجْره المبارك وعوّذه وبرّك عليه، ودعا له، ثم قال لأبيه بم سميته؟.
قال يحيى، وقد كان للحسين أخ لأبيه وأمه يسمى يحيى توفي قبل ذلك، فبكى القاسم عليه السلام حين ذكره وقال: هو والله يحيى صاحب اليمن.
قال الإمام أبو طالب عليه السلام في كتابه الإفادة في تاريخ الأئمة السادة بعد حكاية هذه القصة: وإنما قال ذلك [يعني القاسم عليه السلام] لأخبار رُويَت بذكره وظهوره باليمن، وقد ذكرها العباسي المصنف لسيرته عليه السلام.(1/34)
وكذلك في حال كبره كانت له بين أهله المكانة المرموقة، يروي مصنف سيرته علي بن محمد العباسي العلوي عن أبيه محمد بن عبيدالله رضي الله عنهم أنه كان مع الهادي عليه السلام ومعه أبوه الحسين بن القاسم وعمّاه محمد والحسن وأخوه عبدالله بن الحسين عليهم السلام وجماعة فتيانهم، وأنه كان في مسجد قدّام المنزل الذي كانوا فيه قال: فلما حضرت صلاة العَتَمة قمنا إلى الصلاة، فقال الهادي إلى الحق لعمه محمد بن القاسم: تقدم ياعم صلّ بنا، فقال: سبحان الله يا بني لا يجوز أن أتقدم عليك!
فقال الهادي إلى الحق: قد جعلت الأمر إليك، فتقدم فصل بنا.
فتقدم محمد بن القاسم صلى الله عليه، فصلى بنا العَتَمة، فلما فرغ من صلاته وسلم، التفت إلى الهادي إلى الحق، فقال له: يا ابن أخي استغفر لي، فإني قد تقدمت عليك، وصلّيت بك، وكنتَ أحقّ بالتقدم مني، فقال له الهادي إلى الحق: غفر الله لك ياعم. انتهى من سيرة الهادي عليه السلام ص 37 بتصرف.
ومن الأخبار الواردة فيه صلوات عليه ما نقله صاحب الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية تأليف الفقيه الأجل العالم حسام الدين حميد بن أحمد المحلي، قال: وقد رُوينا عن بعض علمائنا رحمهم الله تعالى رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يخرج في هذا النهج - وأشار بيده إلى اليمن - رجل من ولدي اسمه يحيى الهادي، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحيي الله به الحق ويميت به الباطل)) انتهى.
هذا وورعه وشجاعته وزهده وعبادته شهيرة ظاهرة بين أهل النقل، حتى بين المخالفين، ولو نقلنا ذلك لاحتجنا إلى نقل كلام كثير، ومن أراد الاطلاع على ذلك فليراجع:
سيرته عليه السلام، تأليف علي بن محمد بن عبيدالله العلوي تحقيق الدكتور سهيل زكار طبعة دار الفكر.
الشافي للإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام.
شرح أنوار اليقين للإمام الحسن بن بدر الدين.(1/35)
الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية تأليف حميد بن أحمد المحلي رحمه الله.
الإفادة في تاريخ الأئمة السادة للإمام أبي طالب عليه السلام.
التحف شرح الزلف للمولى الحجة مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله.
وغيرها فإنك إذا راجعت سيرته، وعرفت أحواله، عرفت أنها سيرة أئمة الهدى الذين يسيرون سيرة علي المرتضى، والنبي المصطفى، عليهم صلوات الله وسلامه.
أما علمه عليه السلام فلا يحتاج إلى استشهاد، لانتشار مؤلفاته وأقواله، بل لقد كان سباقاً في معرفة علوم المخالفين وفقههم، مبرزاً فيه حتى على علمائهم، يقول أبو بكر بن يعقوب عالم أهل الري وحافظهم، حين ورد عليه اليمن فيما رواه عنه الإمام أبو طالب عليه السلام في كتاب الإفادة في تاريخ الأئمة السادة:
(( قد ضل فكري في هذا الرجل - يعني يحيى بن الحسين عليه السلام - فإني كنت لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا، وأنا الآن إلى جنبه جذع، بينا أجاريه في الفقه وأحكي عن أصحابنا قولاً، إذ يقول: ليس هذا يا أبا بكر قولكم فأرادُّه، فيخرج إليّ المسألة من كتبنا على ما حكى وادعى، فقد صرت إذا ادعى شيئاً عنّا أو عن غيرنا لا أطلب معه أثراً.)).(1/36)