يريد: من لجج؛ فجعل مكانها: (لدى)، وكذلك حروف الصفات يخلف بعضها بعضاً. أَفَترى محمداً يضل من نفسه ويهتدي من الله، وهذا الخلق يضلون من عند الله؟ معاذ الله!! كيف ننسب هذا الفعل القبيح والاسم إلى الله، والظلم ونبرئ منه أنفسنا، والله عز وجل يقول: ?وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ?[الأعراف:180].
ثم قال عز وجل: ?قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ? [الأعراف:28].(1/343)


وقال: ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إلا إِيَّاهُ? [الإسراء:23]، ولم يقل: وقضى ربك أن تكفروا به وتعبدوا سواه من الحجارة والنار وغيرهما من المعبودات، فكان أمره وقضاؤه ومشيئته أن لا يعبدوا غيره، بالتخيير من العباد لا من جهة الجبر لهم على تركها، فقال: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إن قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا?[الإسراء:31]، ثم قال أيضاً: ?وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى انه كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً?[الإسراء:32]، ثم قال عز وجل: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلا بِالحَقِّ?[الإسراء:33]، ?وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ?[الإسراء:34]، ثم قال: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً?[الإسراء:36]، ثم قال: ?وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا?[الإسراء:39]، أفترى الله سبحانه قضى أن يجعل معه إلهاً آخر ورضي ذلك أو أراده أو شيئاً مما ذكرنا من قتل المشركين أولادهم، ثم عظَّم ذلك وذم عليه فاعله أشد الذم، ورضي بالزنا ثم قال: ?إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً?، وبقتل النفس بغير حق، أو بأكل مال اليتيم، أو الكذب، ثم قال: ?كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً?. فإن كان قضاه سبحانه، فكيف يسألهم عن شيء هو فعله بهم؟ وإن كان منهم فالسؤال لازم لهم والحجة عليهم. وإن كان منه، فكيف يسألهم عن فعله؟! هو سبحانه أعلم بما يفعل بهم منهم بأنفسهم.(1/344)


انظر إلى تبيان ذلك، كيف يقول: ?وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلا كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا? [الكهف:4-6]، أَفَترى الله، سبحانه وتقدست أسماؤه، قضى وأمر وشاء وأراد أن يقول الجاهلون: إنه اتخذ ولداً؛ ثم قال: ?كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ?؟ فكيف تكون كبيرة وهي قضاؤه وأمره؟ ثم قال: ?إِن يَقُولُونَ إلا كَذِبًا?، فكيف يقضي عليهم سبحانه بالكذب أو يكذب نفسه؟ تعالى عن إكذاب نفسه وظلم عباده، فهو يتبرأ منه وينسبه إلى عباده. ثم قال لنبيه عليه السلام عندما عظم إشراكهم عنده: لعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا، فلا تفعل بنفسك ذلك، فإنا قادرون على جبرهم وقسرهم على الإيمان.(1/345)


ثم قال: ?وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إنا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا? [الكهف:29]، فقال مفوضاً إليهم: ?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ?، أَفَتراه قال هذا القول، وقد منع الكافر من الدخول في الإيمان، وحال بين الفريقين، وبين المشيئة والاختيار لأنفسهم، ثم قال ساخراً منهم مستهزئاً بهم: ?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ?؟ معاذ الله ما كان ربي بظلام للعبيد؛ لكن مَكَّنَهم وأعطاهم من القوة والاستطاعة ما مَكَّنهم به من الإيمان والكفر، ورغَّبهم وحذَّرهم ومكنهم وفوضهم، ثم قال حينئذٍ: من شاء الكفر فقد جعلت السبيل إليه، ومن شاء الإيمان، فقد جعلت له الطريق. ثم أعلمهم أن الكفر ظلم لأنفسهم، وأنه قد أعد للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها، زيادة لهم في الوعيد على معاصيه، ثم قال: ?إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً?[الكهف:30]، فأخبر أنه لا يضيع أجرهم إذا عملوا حسناً، ترغيباً منه لهم بالوعد على طاعته، وترك معصيته، ولو كان قضاه عليهم، ما قال: عملوا؛ لأنهم مجبرون على ذلك الحسن، ومن جُبِر على شيء فغير محمود فيه، ولو كان ذلك كذلك لم يقل: ?إنا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً?، كيف يكونون أحسنوا عملاً، وهو المحسن بهم والحاتم عليهم، ثم ما أقبح ما أسند أهل هذا القول إلى الله سبحانه.
ثم قال: ?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ? [النور:21]، فأخبر سبحانه أن الفحشاء والمنكر من الشيطان، وتبرأ منهما ونسبهما إلى غيره، ووعد من اتبعه العذاب، فالله يبرئ نفسه من كل ظلم وفحشاء ومنكر وباطل وإضلال، والجاهلون يلزمونه ذلك.(1/346)


وقال: ?أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا? [الفرقان:43]، كل هذا يخبر عنهم بالقدرة على المعصية والفعل لها، وأن ذلك ليس منه ولا أراده؛ لأنه أكرم من أن ينهى عن شيء وهو يريده، أو يأمر بشيء وهو يريد غيره، أو يحمل العباد عليه. وكل ما نهى الله عنه فليس منه، وكيف يكون منه ما نهى عنه؟ هذه صفة اللَّعابين، تعالى الله عنها علواً كبيراً.
وقال مخبراً ومُخيِّراً: ?مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? [النمل:89، 90]، فأخبر سبحانه أنه يجزيهم بفعلهم في الحسنة والسيئة، لا بفعله بهم وقضائه عليهم، وأن ذلك منهم وفيهم، ألا ترى كيف يقول: ?هَلْ تُجْزَوْنَ إلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?؟ أي لم يظلمكم ولم يجزكم إلا بعملكم لا بغيره، توفيقاً منه لهم، وتبرياً من الظلم إليهم. فلو كان قضى ذلك عليهم لما كانت عليهم حجة ولا تبرأ سبحانه من فعله ونسبه إليهم، إذ كان ذلك أكبر الظلم لهم، تبرأ الله عن ذلك، ولم ينزهوه عنه، فقد ظلموا أنفسهم.
ثم قال أيضاً: ?مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [القصص:84]، وهذا أيضاً القول فيه كالقول في الذي قبله.
ثم قال: ?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ? [العنكبوت:4]، يقول: أم حسب الذين يعملون المعاصي أنهم يغلبون ويسبقون إلى العمل بها، ولو شئنا ما سبقونا إليها ولا فاتونا بها، فكل هذا يُعلَم أنه بريء من أفعال العباد، وأنها منهم بغير أمر له إلا بما فوض إليهم، ومكَّنَهم وخيَّرهم.(1/347)

69 / 172
ع
En
A+
A-