ومما يُسألون عنه قول الله سبحانه فيما يحكي عن الكافرين في يوم الدين من القول حين يقولون: ?رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ?[ص: 61]، فقال سبحانه: ?لِكُلٍّ ضِعْفٌ?، يريد سبحانه: لكم ولمن قدم ذلك لكم وبه أمركم، وزينه في قلوبكم، وأدخله في صدوركم. فيقال للمجبرة: أخبرونا عن الذي قدم ذلك لهم، وأدخلهم فيه، وقضى عليهم به، فإنا نجد الله سبحانه يخبر أن له ولهم ضعفاً من العذاب، فإن قالوا: إن الله قضى به، وأدخلهم فيه بقضائه؛ فقد زعموا أن الله قد أوعد نفسه العذاب، وأوجب عليه إذ قضى بالكفر عليهم، وأدخلهم بقضائه فيه، وهذا الكفر بالله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وإن قالوا إن الله سبحانه لم يقض بذلك عليهم، ولم يدخلهم فيه، وإن إخوانهم من شياطين الجن والإنس أدخلوهم فيه، وزينوه لهم وحملوهم عليه، وإنهم هم أهل الوعيد الذي ذكر الله سبحانه؛ فقد أصابوا وخرجوا من قول المجبرة، ورجعوا إلى قول أهل العدل.
ومما يُسألون عنه قول الله سبحانه فيما يحكي عن الفاسقين الكفرة الضالين حين يقولون: ?رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ?[فصلت: 29]، فيقال للمجبرة: قد نجد أهل العذاب من الكفار يقولون يوم القيامة ما تسمعون، وينسبون ما كان من سبب إغوائهم وإضلالهم إلى الجن والإنس، ويُبرِّؤون الله سبحانه في ذلك اليوم من فعلهم، وأنتم تزعمون أن الله هو الذي أدخلهم في الضلال دون مَن زَعَم أهل الضلال؛ أفتقولون كما يقولون؟ أم تقولون لهم: كذبتم لم يضلوكم؟ فإن قالوا كما قال الله أصابوا، وخرجوا من الكفر. وإن قالوا: بل الله أضلهم دون من ذكروا من الجن والإنس كفروا وخالفوا قول الله.(1/318)
ومما يُسألون عنه قول الله سبحانه: ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ?[آل عمران: 71]، فيقال لهم: خبرونا من لبس الحق بالباطل، وخلط عليهم أمرهم، وأخرجهم من هداهم ورشدهم، أنفسهم أم الله؟ فقد نجد الله جل جلاله يقول: ويذكر أن ذلك منهم، فما قولكم أنتم؟ فإن قالوا: هو من الكفار وليس هو من الله؛ فقد أصابوا ورجعوا إلى الحق. وإن قالوا: هو من الله بقضاء وقدر، ولولا القضاء والقدر لم يدخلوا في ذلك، ولم يلبسوا الحق بالباطل؛ فقد كذبوا قول الله، وصدقوا قول الجاهلية، وهذا هو الشرك بالله، بل قول الله الحق المُصدَّق، وقولهم الكَذِب المكذَّب.
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول آدم صلى الله عليه: ?رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا?، أفتقولون: إن آدم الذي ظلم نفسه بالخطيئة، وأساء إليها بإدخالها في المعصية، كما قال صلى الله عليه؟ أم تقولون إن الله أدخله في المعصية، وأخرجه بالقضاء من الطاعة وظلمه بذلك، وإن آدم وحوى لم يظلما أنفسهما؟ فإن قالوا: بل الله الذي أدخلهما في المعصية بقضائه عليهما؛ فقد كذبوا قول آدم وما حكى الله عنه، وفي ذلك الأمر العظيم والجرأة على الله عز وجل وعلى آدم صلى الله عليه. وإن قالوا: بل صدق آدم، فقد رجعوا إلى العدل، وتركوا القول بالجبر وأسلموا.(1/319)
ومما يسألون عنه قول الله سبحانه: ?وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى?[فصلت: 17]، يريد: آثروا الضلال والغي والهوى على ما إليه دعوا، وبه أمروا من الهدى. أفتقولون: إنه كما قال الله، وإنهم آثروا العمى على ما إليه دعوا من الهدى؟ أم تقولون: إنهم لم يستحبوا، ولم يؤثروا العمى على الهدى، وإنهم أُدخِلوا في الهوى، وأُخرِجوا من الهدى بالقضاء من الله الغالب لكل أحد الذي لا غالب له؟ فإن قالوا: بل هم الذين استحبوه، ودخلوا في الهوى من أنفسهم، وخرجوا من الهدى، فقد آمنوا وقالوا بقول الله في ثمود. وإن قالوا: بل الله أخرجهم من الهدى، وأدخلهم في الهوى، فقد كذبوا قول الله، وكفروا به وضلوا ضلالاً بعيداً.
وممّا يسألون عنه قول الله سبحانه: ?وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى?[النجم: 23]، فأخبر سبحانه أن الهدى من الله، وزعمت القدرية أن الضلال بأمر الله، وإذا ثبت ذلك فالهدى من رأيهم لا من رب العالمين؛ لأن الهدى والضلال ضدان مختلفان متباينان، لا يجتمعان لجامعهما في حالة، ولا يفعلهما فاعل. والقدرية تقول إن الهدى لم يأت العاصين الضالين من رب العالمين، والله يقول قد آتاهم الهدى من قِبَله، وحل لديهم من عنده، فتركوه ولم يفعلوه، وخالفوه ورفضوه. فأي القولين أصدق وأحق بأن يقبل، أقول الله أم قولهم؟ بل قول الرحمن الصدق والحق، وقولهم الباطل والمحال والفسق.(1/320)
وممَّا يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه فيما حكى عن أهل جهنم من القول حين يقول: ?أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ?[المؤمنون: 105]، فذكر إقرارهم على أنفسهم بأن الفسق والمعاصي كانت منهم، ونفاها عن نفسه أن يكون قضى بها عليهم، بل قال واحتج في ذلك عليهم بقوله: ?أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ?[المؤمنون: 105]، فأخبر أن الأمر بالطاعة لهم، ونهيه إياهم عن المعصية كان في حياتهم منه إليهم، فأبَوْا واتبعوا الهوى، وتركوا ما به أمرهم ربهم من اتباع الهدى. ولو كان ذلك من الله نزل بهم لقالوا: ربنا غلب علينا قضاؤك؛ ولم يقولوا: ?غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا?. فإن قالت المجبرة: إن قضاء الله الذي منعهم من الطاعة، وغلبهم على المعصية؛ فقد كذبوا قول الله. وإن قالوا: بل هو كما قال المعَذَّبون وحكاه الله عنهم؛ فقد تابوا وآمنوا، ورجعوا إلى الحق والعدل. والمعَذَّبون مُقرُّون بالحق على أنفسهم، والمجبرة ترمي به الله وتلزمه إياه، فتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ومما يُسألون عنه قول الله سبحانه: ?إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى?، ولم يقل: منَّا الضلالة والردى؛ فيقال لهم: أتقولون إنه كما قال إن منه الهدى الذي ذكره الله، ولم يذكر ضده؟ أفتقولون إنما ذكره عن نفسه فهو منه، وما لم يذكره فليس منه، أم تقولون إنما ذكره ونفاه عن نفسه، فهو كل منه؟ فإن قالوا: بل ما ذكر أنه منه فهو منه، وما لم يذكر أنه منه فليس منه؛ فقد رجعوا إلى الحق وآمنوا. وإن قالوا: بل ما قال إنه منه فهو منه، وما قال أيضاً ليس منه فهو منه؛ فقد كفروا وكذبوا على الله.(1/321)
وممَّا يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه فيما يحكي عن موسى عليه السلام في قتله الكافر الذي قتله عن غير دعوة منه له إلى الله ولا معرفة أن موسى رسول الله: ?قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ?، ولم يقل: هذا من قضاء الله ولا عمله. أفتقولون: إن ذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من قِبَل الشيطان، أم تقولون إن موسى أُتي من قبل الرحمن؟ فإن قالوا: بل أُتي من قبل الشيطان كما قال الله، وكما قال موسى عليه السلام، وهو أعرف بالله وبكل أمر كان من الله، ولو كان من الله لقال صلى الله عليه وسلم: هذا من قضاء الله؛ فقد صدقوا ورجعوا إلى الحق، وتابوا وخرجوا من الباطل، وصاروا عادلين، ولنبي الله عليه السلام مصدقين. وإن قالوا: بل لم يؤت موسى في ذلك إلا من الله، والله أدخله في قتله ومعصية ربه بقضائه على موسى بقتل الرجل، ولولا قضاء الله لم يقتله موسى؛ كانوا في ذلك لموسى عليه السلام مكذبين، وقد زعموا أنهم أعلم بالله من موسى عليه السلام، وهذا غاية الطعن على الله عز وجل، وعلى نبيه صلى الله عليه، وفي ذلك الكفر بالله صراحاً.(1/322)