(( ولما ظهرت الضلالات، وانتشرت الظلمات، وتفرقت الأهواء، وتشتت الآراء في أيام الأموية - وإن كان قد نجم الخلاف في هذه الأمة من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها عظمت الفتن، وجلت المحن في هذه الدولة - وصار متلبساً بالإسلام من ليس من أهله، وادعاه من لا يحوم حوله، وقام لرحض الدين، وتجديد ما أتى به رسول رب العالمين، الإمام زيد بن علي، يقدم طائفة من أهل بيته وأوليائهم، وهي الطائفة التي وعد الله الأمة على لسان نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، أنها لن تزال على الحق ظاهرة، تقاتل عليه إلى يوم الدين، أَعْلَن أهل البيت صلوات الله عليهم الاعتزاء إلى الإمام زيد بن علي؛ بمعنى أنهم يدينون الله بما يدينه من التوحيد والعدل والإمامة، ليظهروا للعباد ما يدعونهم إليه من دين الله القويم، وصراطه المستقيم، وكان قد أقام الحجة، وأبان المحجة، بعد آبائه صلوات الله عليهم، فاختاروه علماً بينهم وبين أمة جدهم.
قال الإمام الكامل عبدالله بن الحسن بن الحسن: ((العَلَم بيننا وبين الناس علي بن أبي طالب، والعلم بيننا وبين الشيعة زيد بن علي)).
وقال ابنه الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية: ((أما والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوجّ، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة)) انتهى، فلم يزل دعاء الأئمة، ولا يزال على ذلك إن شاء الله إلى يوم القيامة.)) انتهى.
وقال أيده الله في التحف أيضاً تحت عنوان الرافضة ص 68 الطبعة الثالثة:(1/27)
(( وحالُ الإمام الرضي، السابق الزكي الهادي المهدي، زيد بن علي، وقيامه في أمة جده، طافح بين الخلق، ولم يفارقه إلا هذه الفرقة الرافضة التي ورد الخبر الشريف بضلالها، وسبب مفارقتهم له مذكور في كتاب معرفة الله للإمام الهادي إلى الحق وغيره من مؤلفات الأئمة والأمة، فإن الأمة اجتمعت على أن الرافضة هم الفرقة الناكثة على الإمام زيد بن علي ولكنها اختلفت الروايات في سبب نكثهم عليه، وأهل البيت أعلم بهذا الشأن إلى آخر ما ذكره أيده الله فيها. ))
وقد كان للإمام زيد عليه السلام الفضل الكبير، والجهد العظيم، في إنارة الحق، وكشف شبه الضلال، وله مناظرات مهمة ومؤلفات عظيمة مثل:
كتاب المناظرات.
المجموعان الحديثي والفقهي.
كتاب الرد على المرجئة.
كتاب الخطب والتوحيد.
كتاب الاحتجاج في القلة والكثرة جمع فيه الآيات القرآنية في مدح القلة وذم الكثرة، واحتج به على الشامي لما ناظره واحتج بأنهم الكثير.
كتاب الإيمان.
كتاب الرسالة في إثبات الوصاية، وغيرها.
وكذلك كان في عصره أخوه باقر علم الأنبياء عليهم السلام، وكذلك كامل أهل البيت عبدالله بن الحسن وأخوته وأولاده السابقون إلى الله بالجهاد في سبيله، والقائمون بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أُزهقت أرواحهم في سبيل الله عليهم رحمة الله وسلامه، وكذلك الإمام يحيى بن زيد، والإمام الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام، كل هؤلاء كان لهم ما تعجز عن صفته الأقلام في نشر الدين وإيضاح الحق، وذلك معروف عند من له علم بالتاريخ.
وكذلك الإمام الحسين بن علي الفخي عليه السلام.
وكذلك الإمام أبو عبدالله أحمد بن عيسى بن زيد فقيه آل محمد صاحب الأمالي المعروفة بعلوم آل محمد.
وكذلك الإمام السابق محمد بن إبراهيم الذي ورد فيه عن الباقر عليه السلام: إن الله يباهي به الملائكة.(1/28)
وكذلك الإمام نجم آل الرسول، وإمام المعقول والمنقول، القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام قام بالدعوة إلى الله، وتشرّد في البلاد هرباً من الظالمين فلم يعقه ذلك عن نشر العلوم، وإبانة الحق، بل كان ينشرها في حال التشرد والخوف، كما في مناظرته مع الملحد، وقد استقرّ في بلاد الرس فملأ الدنيا علوماً، وقصد محل هجرته كثير من طلاب العلم النبوي، فأرشد الكثير وأفادهم، وتخرج عليه الكثير من العلماء والفقهاء.
وإنما ذكرت لك فيمن ذكرت لتعلم أنهم صلوات عليهم سلسلة متصلة بسيد الأوصياء، وخاتم الأنبياء صلوات الله عليهم، لم يختلط بها جهل ولا انقطاع، بل كانت علومهم يلقيها الأول إلى الآخر تلقيناً في الصغر واستدلالاً في الكبر.
من قولهم مسند عن قول جدهم .... عن جبرئيل عن الباري إذا قالوا
فهم كما ترى في كل عصر كوكبة تنير الظلم، وتحفظ الدين، وترد كيد الكائدين، لا تحتاج إلى التنقيب عن عدالتهم، بل هم مشهورون بالعلم والزهد والفضل، ولم يتجهوا إلى الدنيا مع اقتدارهم عليها، بل أعرضوا عنها، فلم يُظن بهم اتباع هوى، ولا اقتراف ذنب، ولا ميل عن حق.
ومع ذلك شهادة الصادق المصدوق لهم صلوات الله عليه وعليهم في حثه للأمة في الخبر المتواتر على التمسك بهم حين قال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً، يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله )).(1/29)
وفيهم من كلام الله وكلام رسوله ما قد ملأ الأسفار، واشتهر اشتهار الشمس وسط النهار، ولمعرفة المزيد من ذلك عليك بمراجعة:
كتاب الشافي للإمام عبدالله بن حمزة عليه السلام.
تخريج كتاب الشافي للمولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله.
كتاب ينابيع النصيحة للأمير الحسين عليه السلام.
لوامع الأنوار لحجة عصرنا المولى مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى وأطال بقاه.
شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني.
كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة.
وغيرها كثير، فإنك إذا تصفحتها رأيت ما يبهرك من كثرة المناقب والفضائل والدلائل الدالة على حجيتهم، ووجوب اتباعهم.
وبذلك علمت أنه لا يعرض عنهم إلا معرض عن دين الله، ولا يعاديهم إلا محادّ لله.
قال مولانا الحجة شيخ الإسلام وإمام أهل البيت الكرام/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله في كتابه (التحف شرح الزلف) في أثناء ترجمته للإمام الهادي عليه السلام [ص 178، الطبعة الثالثة] بعد تعديده مؤلفات الإمام الهادي عليه السلام ما لفظه: (( قلت فانظر إلى هذا مع اشتغاله بإظهار الدين الحنيف، وضربه بذي الفقار رؤوس أهل الزيغ والتحريف، وقد كان ابتداؤهم في التأليف من عصر الوصي عليه السلام، فقد كانوا يكتبون ما يمليه عليهم من العلوم الربانية والحكم البالغة التي خص الله بها أهل هذا البيت الشريف، ومؤلفاتهم بين ظهراني الأمة قد ملؤوها بحجج العقول، وأكدوها بصحاح المنقول، أما التوحيد والعدل فإمامهم فيه والدهم الوصي، الذي خطب به، وبلغ الخلق على رؤوس المنابر، ولقنه أولاده الوارثين له كابراً عن كابر، وأمّا سنّة جدهم فمن باب المدينة دخلوا، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، ولقد حفظ بعضهم عن باقر علم الأنبياء محمد بن علي سبعين ألف حديث.(1/30)
وأما علوم اللغة فمنها ارتضعوا، وفيها دبّوا ودرجوا، ومن زلالها كرعوا، يتلقونها أباً عن أب، لم تدنسها ألسنة العجم، ولا غيرتها تحاريف المولّدين، بل تربّوا في حجور آبائهم الطاهرين ليس لهم همّ إلا تعريفهم ما أنزل الله من الفرائض، وتبيين ما ضل عن الخلق من الغوامض، لم يكن بينهم وبين أبيهم أمير المؤمنين، وأخي سيد المرسلين - من كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، من احتذت على آثاره فصحاء الأمة، واقتبست من أنواره بلغاء الأئمة - إلا إمام سابق ومقتصد لاحق، وهم العرب الصميم، وأرباب زمزم والأباطح والحطيم، فلولا أن ما نقلته النقلة من أهل اللغة موافق لكلام الله وكلام رسوله، وأهل بيته لما قبلناه منهم، ولما أخذناه عنهم، فهو معروض على هذه الأصول الحكيمة، والقواعد الراسخة القويمة، ومن له عناية في اقتفاء آثار أهل بيت نبيه أمكنه أن يأخذ من كلامهم متون اللغة وإعرابها، وتصريفها، ومعانيها، وبيانها، وبديعها، وتأليفها، وحقائق التأويل، وطرائق التنزيل، فلم يأتمنهم الله على دينه إلا وهم أهل لحمله وتلقينه، ?اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ?[الأنعام:124].)) انتهى.
ومن هنا يظهر لنا سبب تفرّق الأمة، وأنه تَرْكها لقادتها، واتباعها لغيرهم، بل وقتلهم إياهم، وتشريدهم وتطريدهم. ومن خالف دليله أو قتله في وسط المفازة المغوية ضلّ بلا شك ولا ريب، وقد أنبأنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن التمسك بهم أمان من الضلال. ويظهر أيضاً السبب الذي يمكن للأمة لو تركت الأهواء أن تتوحد حوله، لا ما يُرَوّقه البعض من أن الدوافع للوحدة تساهل الناس في دينهم، وإهمالهم لبعض عقائدهم، لأن الاعتصام يجب أن يكون بحبل الله، وهم والقرآن حبلُ الله، وهم تراجمة كتابه، فيجب على كل دعاة الوحدة الإسلامية الدعوة إلى الالتفاف حول كتاب الله وحول تراجمته، ليكون التوحد على الحق، وعلى ما أراد الله.(1/31)