والدليل على أن الله أوسع من السموات والأرض قوله: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ?[البقرة: 255]، فأخبر أن السموات والأرض داخلتان في كرسيه، يريد سبحانه أنهما داخلتان في قبضته، وأنهما أصغر صغير وأحقر حقير عنده؛ إذ كان الممسك لهما في الهواء، ولولا إمساك الله لهما لسقطت السموات والأرض، وما إمساك الله للسماء في مستقرها بعظمها وجسمها ورحبها، إلا كإمساك الطير في جو السماء لا فرق بينهما عند الله عز وجل إلا بزيادة الخلق وسعة السماء، والسماء والطير في ضعفهما وصغرهما ودناتهما سواء سواء وكلاهما فقد صار إلى الهواء، وقد قال الله سبحانه فيهما: ?وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلا بِإِذْنِهِ?[الحج: 65]، وقال في الطير: ?أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إلا اللّهُ?[النحل: 79]، فصير الطير بضعفه وصغره كالسماء بعظمها وجسمها، لا يمسكهما غيره.(1/288)
الرد على من قال: إن لله عز وجل عرشاً في السماء محيطاً به
فمن قال: إن لله عز وجل عرشاً في السماء محيطاً به فقد زعم أن العرش أوسع منه وأعظم، وأقوى وأجسم، فزعم أن العرش هو المحيط بالأشياء ليس الله، وأن العرش هو الواسع ليس الله، وأن العرش هو القوي ليس الله. ويزعم في زعمه أن الله أصغر من العرش، إذ كان في زعمه في جوف العرش، وكان العرش مشتملاً عليه محيطاً به، فصير العرش ربه. وزعم أن العرش هو الواسع العليم؛ إذ زعم أنه أوسع من الله العزيز الحكيم، وأخرج الله عز وجل من قوله: ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?[النور: 35] - يريد أن بحياته حييتا، وبقدرته استقامتا، ولولا هو لزالتا وامحتا وهلكتا، وهلك ما عليهما، لولا إحياؤه لهما - وقد قال الله عز وجل: ?هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد:3].
فنقول لهؤلاء الملحدين في الله سبحانه: أخبرونا عن العرش أهو الظاهر على الله، أم الله الظاهر عليه؟
فإن قالوا: إن العرش هو الظاهر على الله.
قلنا لهم: فلقد أكذبكم الله في كتابه بقوله هو: ?الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ?، فأخبر عز وجل أنه هو الظاهر، وأنتم تقولون: إن العرش هو الظاهر، فقد كذبتم على الله في قولكم، وقلتم بخلاف قوله عز وجل، وقد ضللتم ضلالا بعيداً بكذبكم على الله، وافترائكم عليه.
وإن قالوا: بل الله هو الظاهر على جميع الأشياء، لم يقدر أحد أن يدفع هذه الحجة عنهم.
قلنا لهم: قد قلتم بالحق، ورجعتم إلى الصدق، فإذا كان هو الظاهر على جميع الأشياء كان ظاهراً على كل عرش وغيره، والله من وراء ذلك العرش محيط، كما قال الله عز وجل: ?وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ?[البروج: 20]، فالله عز وجل من وراء كل عرشٍ وغيره محيطٌ، وظاهر على كل شيء.(1/289)
معنى قوله تعالى: ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?طه:5 وقوله تعالى: ?وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء?هود:7
فإن قال قائل: فإذا قلتم: إن العرش هو الله؛ فما معنى قوله: ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه: 5]، وقوله: ?وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء?[هود: 7].
قلنا له: إنما قلنا: إن العرش هو الله إذ كان العرش اسماً يدل على الله؛ لأن العرش من صفات الملك، وليس هو عرش مخلوق، إنما هو اسم من أسماء الملك يدل على ملك الله. ومعنى يدل على ملك الله أنه يدل على الله، إذ هو الملك بنفسه، فكان في المعنى عندنا سواء أن يقول القائل: لا ملك إلا ملك الله، أو يقول: لا عرش إلا عرش الله؛ فلذلك قلنا: إن العرش متصل بالله، كاتصال الكف بساعدها، لأنه في غاية المعنى أن العرش علو الله على جميع الأشياء بنفسه.
وإنما مثل الله علوه على جميع الأشياء وإحاطته بها كعلو الملك على سريره إذا استوى عليه، واستعلى فوقه في المثل لا غيره، وليس في الشبه والصفة إلا في المثل، والعرش الذي ذكره الله عز وجل هو مثل ضربه الله في استوائه على ملكه، وإنما تفسير هذا المثل الذي ضربه الله لعباده في العرش والكرسي أن الملك من ملوك الدنيا إذا قعد على كرسيه وعلى سريره استعلى فوقه، والعرش فهو السرير، فمثل الله عرشه وكرسيه بهذا العرش وهذا الكرسي، فكان كرسي الملك من الملوك كرسياً ضعيفاً صغيراً، والذي استوى فوقه أضعف منه وأحقر منه، وكذلك العرش أيضاً فهو في الضعف والصغر كمثل الكرسي وسواء الكرسي والعرش، كلاهما مقعد للملك يقعد عليه، ويستوي فوقه.(1/290)
وكرسي الله عز وجل فقد وسع السموات والأرض حتى صار من عظم سعته السماء والأرض في كرسيه كالحلقة الملقاة في الأرض، وصار الكرسي محيطاً بهما كإحاطة الأرض بتلك الحلقة، فكانت السموات والأرض لصغرهما وضيقهما في سعة الكرسي عليهما كضيق الحلقة، وصغرهما في سعة الأرض عليها، وكان الكرسي مشتملاً على السموات والأرض كما اشتملت هذه الأرض على هذه الحلقة، والواسع لهما بعظمهما كما وسعت الأرض هذه الحلقة الله الذي لا إله إلا هو، وسع الأشياء كلها، حتى أحاط بها وملأها وغمرها.
وليس ثم كرسي غير الله، إنما هو مثل مثله الله لعباده؛ ليستدل به على عظمته واتساعه على جميع الأشياء وإحاطته بها.(1/291)
الدليل على أن الله عزوجل يذكر الكرسي والعرش معرفة عباده بسعة ملكه
ومن الدليل على أن الله عز وجل أراد بذكر الكرسي والعرش أن يعرف عباده عظم سعته وإحاطته بالأشياء قوله عز وجل: ?لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا?[الطلاق: 12]، وقوله: ?وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ?[البروج: 20]، وكثير في كتاب الله مما يدل على أن الله محيط بالأشياء، وهذا الكرسي مما يدل على إحاطة الله بجميع الأشياء واتساعه عليها، وتفسير العرش أيضاً كتفسير الكرسي سواء سواء فهذا معنى قولنا: إن العرش هو الله، وإن الوجه هو الله، وإن الكرسي هو الله.(1/292)