كتاب العرش والكرسي
بسم الله الرحمن الرحيم(1/283)
معنى العرش والكرسي والوجه والكتاب والصراط والميزان...
قال يحي بن الحسين صلوات الله عليه:
والكرسي، والعرش، والقبضة، والبطش، والإتيان، والمجيء، والكتاب، والصراط، والميزان، والكشف عن ساق، واليدان، والقبض، والبسط، والوجه، والحجاب أمثالٌ كلها، لا يضاف شيء منها إلى صفات البشر، فمن أضاف شيئاً منها إلى صفات الخلق فقد كفر، وإنما هذه الصفات من أمثال القرآن وهو قوله: ?وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلا الْعَالِمُونَ?[العنكبوت: 43]، وقد ذكر الله الأمثال في كثير من القرآن.
فنقول: إن المعنى في العرش والكرسي والوجه سواء، ليس بينهما فرق، والمعنى فيها واحد، فنقول: إن معنى الوجه في الله هو الله، ومعنى الكرسي في الله هوالله، ومعنى العرش في الله هو الله، لا شك في ذلك عندنا ولا ارتياب فيه.
ونقول: إن معنى قول الله سبحانه: ?أَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ?[البقرة: 115]، كمعنى قوله: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ?[البقرة: 255]، ومعنى قوله عند ذكر الوجه: ?إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?[البقرة: 115]، كمعنى قوله عند ذكره الكرسي: ?وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ?[البقرة: 255]، وكمعنى قوله: ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه: 5]. وإنما هذه الثلاثة أصناف كلها تشريف لله عز وجل: فالوجه الذي ذكره الله يستدل به على بهائه وحسن عظمته؛ والكرسي يستدل به على ملكه، ومعنى يستدل به على ملكه أنه يستدل به عليه لأنه الملك نفسه، وليس شيء مما خلق يزيد في ملكه؛ وكذلك الوجه يستدل به عليه؛ وكذلك العرش يستدل به عليه؛ لأنها أمثال قدمها الله تحكي من حسن الله وبهائه، أعني حسنه في ذاته، وبهاءه في ذاته، وليس ذلك الحسن والبهاء الذي هو لله عز وجل على شيء من صفات حُسْنِ الخَلْقِ وبهائهم.(1/284)
ولا نصف الله عز وجل بشيء من صفات البشر، بل نقول: إن معناه ذلك كله؛ إذ يعود كل صنف إلى أصله، أنه هو الله عز وجل لا غيره، وليس نقول: إن ثم عرشاً مخلوقاً، ولا كرسياً مخلوقاً، ولا وجهاً مخلوقاً، وليس من هذه الثلاثة الأمثال العرش والكرسي والوجه يوجد أبداً بصفة من الصفات، ولا بحلية من الحلات، إنما المعنى في هذا كله الله الذي لا إله غيره وحده لا شريك له.
فإن قال قائل أو سألنا سائل، فقال: ما معنى العرش الذي ذكره الله في كتابه؟
قلنا له: اسم يدل على الله في ارتفاعه وعلوه فوق خلقه من أهل سماواته وأرضه.
فإن قال لنا: ما الكرسي الذي ذكره الله في كتابه؟
قلنا له: اسم يحكى عن صفات الله في ذاته.
فإن قال: وكيف صفات الله في ذاته؟(1/285)
قلنا له: إن الكرسي يدل على الله، وهو اسم من أسماء ملك الله، وليس ثَمَّ شيء سوى الله. ومعنى ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ?[البقرة: 255] أنه هو وسع السموات والأرض بكرسيه، ومعنى وسع السموات والأرض بكرسيه، أي وسع السموات والأرض بعلوه واقتهاره، ألاَ تسمع إلى قوله: ?وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا?[البقرة: 255]، يريد سبحانه أن السموات والأرض لا يحفظانه، يخبر أنهما لا يمسكانه، وكيف يمسكانه أو يحفظانه عز وجل، وهو يخبر أنه خارج منهما، محيط بأقطارهما؟ واصل من ورائهما ووراء ورائهما إلى ما لا يصل إليه غيره عز وجل. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر رحمة الله عليه: ((يا أبا ذر ما السماوات والأرض في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في الأرض.)) يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ما السموات والأرض بأقطارهما في ورائهما مما هو أوسع منهما من حد أقطارهما إلى ما لا منتهى له، إلا كالحلقة الملقاه في الأرض. فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم بعظمهما وجسمهما أنهما داخلتان في الكرسي كدخول الحلقة في الأرض فما لعسى موضع الحلقة من الأرض؟ أليس كأنما وراء الحلقة من أقطار الأرض إلى تخومها وجبالها وأشجارها وأنهارها وما فوقها وتحتها أوسع وأعظم وأرحب مما وسعت الحلقة منها، وكانت الحلقة أصغر شيء منها، وكان القليل الحقير الصغير اليسير ما قد وسعه الله، وأحاط به، وهو يخبر سبحانه أنه هو الذي وسعهما، وأحاط بهما، حتى صارتا بعظمهما وكبرهما في إحاطة علمه كالحلقة الملقاه في الأرض.
ومعنى قولي: في إحاطة علمه أي في إحاطته بنفسه؛ لأنه لا علم له غيره، فالله عز وجل قد أحاط بالسماوات والأرض كإحاطة الأرض بالحلقة الملقاة في جوفها، وهاهنا والله تاهت العقول، وضلت الأحلام، وانقطعت الفكر في الله عز وجل.(1/286)
وفي كتاب الله تصديق هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عز وجل: ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ?[البقرة: 255]، يخبر أنه هو الذي وسع السموات والأرض، وأنهما لم تسعاه، ولم تحوياه، ولم تمسكاه، ولم تحفظاه، بل كان هو عز وجل المحيط بهما، والواسع لهما، والممسك لهما، والحافظ لهما، وذلك قوله عز وجل: ?إن اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إن أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ انه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا?[فاطر: 41]، يخبر عز وجل أنه يمسك السماء بعظمها في الهواء، ويمسك السموات السبع أيضاً، وكل سماء منهن أعظم وأوسع مما دونها، وكذلك الأرضون السبع، كل أرض أوسع مما فوقها، لأن السماء العليا مشتملة على السماء السفلى، وكذلك الأرضون والسموات السبع معلقات في الهواء، لا يرفدهن شيء، ولا يمسكهن إلا الله عز وجل، وكذلك الأرضون فكل ذلك في الهواء لا يمسكه إلا الله عز وجل، وليس من وراء هذا شيء يمسك الله هو أصغر وأحقر وأضعف، والله أوسع منه وأعظم.(1/287)