قال الهادي عليه السلام: وقد يكون العبد في المعاصي الجليلة فيكون الله ساخطاً عليه معادياً له، ثم ينتقل إلى الطاعة فينتقل عليه ضد ذلك من الرضا، والولاية، والمحبة والمعونة له، وقد يكون في طاعة الله عز وجل فيكون الله راضياً عليه، ثم ينتقل إلى المعاصي فينتقل عليه ضد ذلك الرضى وهو السخط.
واعلم أن الرضى بالفعل هو غير الرضى عن الفاعل، وإنما يرضى عن الفاعل إذا أتى كمال مراده منه، ولأن العبد قد يرضي الله في جميع أفعاله، ويسخطه في وجه. تبيين ذلك أن الصغيرة الواقعة من الأنبياء عليهم السلام مسخطة لله، وإن كان سائر أفعالهم مرضية له. وتبيين ذلك أيضاً أن الواحد منا قد يكون مرضياً لغيره في وجه، ومسخطاً له في آخر. وكذلك في طاعة الكافر وكفره. فإذا صح ذلك لم يجز متى رضي تعالى ببعض أفعال المكلف أن يكون راضياً عنه؛ لأن الرضا ههنا معلق بالفعل. وإنما يتعلق الرضى بالفاعل إذا أرضى الله عز وجل في أفعاله على قولنا في استحقاق المدح والثواب، فإذا كان العبد مسخطا لله في وجه ومرضياً له في وجه، قيل إن الله راض ببعض فعله ساخط لبعضه، ولم يتعلق السخط والرضا هاهنا بالفاعل، فإذا علق بالفاعل كان محالاً أن يوصف الله بأنه راض على من هو ساخط عليه، فأما الولاية من الله تعالى للمؤمنين فإنما يتولى تعظيمهم ومدحهم، ويأمر بذلك بعد استحقاقهم لذلك بأفعالهم. وأما العداوة فحقيقتها إنزال المضار بالعاصي، واستعمال العدواة لله من الكافر مجاز؛ لأن الكافر لا يقدر على إنزال المضار به تعالى، وإنما يوصف بذلك من حيث كان عدوا لأوليائه. والمحبة من الله للمؤمنين فإنما المراد بها منه إيصال المنافع اليهم تفضلاً واستحقاقاً.(1/273)


واعلم أن هذه الصفات إرادة من حيث كان عدواً لأوليائه والمحبة من الله للمؤمنين، فإنما يجوز أن يريد الأفعال ويكرهها، والإرادة فقد صح أنها من صفات الفعل. وإنما يجب أن لا يجيز هذه الأوصاف على الله عز وجل من لا يثبته مريداً على الحقيقة، ولا كارهاً، فإذا صح أنها من صفات الفعل وجب القضاء بأنه إنما سخط ورضي بعد وجود ما يوجب ذلك، وذلك لا يجوز إلا بعد التكليف، وبعد تصرف المكلف بالطاعة والمعصية؛ لأن جميع ذلك منه تعالى جزاء على الأفعال، ولا يحسن مجازاة الفاعل قبل إقدامه على الفعل، وذلك بين، ومما لا يحتاج فيه إلى إطناب.
فأما ما ذكر عن سليمان بن جرير فإنما أتي من قبل قوله بأنه يقول: إن الله تعالى لم يزل مريداً؛ و يثبت ذلك من صفات الذات، فقال ما قاله، وقد دللنا على بطلان ذلك ببطلان أصله الذي يتعلق به في أن الإرادة من صفات الذات. ومما يبين فساد ذلك أن الساخط إنما يحسن منه أن يسخط على من فعل قبيحاً من علمه فاعلاً لذلك القبيح، لا لعمله بأن الفعل المسخط له سيقع، ألا ترى أن ذلك يقبح فيه قبل وقوع القبيح كما يقبح منا أن تعاقب بالضرب والإيلام من لم يأت ما يستحق ذلك منه، فإذا ثبت ذلك لم يجز منه تعالى أن يسخط على المؤمن من حيث علمه أنه سيكفر في آخر أمره، ولو حسن منه ذلك لحسن أن يسخط عليه ويعاقبه ويجرمه في حال إيمانه لعلمه بما سيقع منه؛ لأنه بعلمه عاقبه لا بفعله؛ لأنه لم يقع منه فعل يوجب عقابه، لكن بعلمه عاقِبَتَهُ ، ولو حسن ذلك منه لحسن أن يعاقبه وأن يقدره على الطاعة، ولحسن أيضاً أن يعاقبه مع أنه المانع له من الطاعة، وفساد ذلك ظاهر، وهذه طريقة ما سلكها أحد من الأئمة ولامن العلماء من غيرهم سوى هذه المجبرة فاعلم ذلك.
تَمَّ والحمدلله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامُه.
وله أيضاً عليه السلام:(1/274)


كتاب تفسير الكرسي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله وعلى أهل بيته، وأن يجعلك من أهل ولايته، ويحبوك بحفظه وكلايته، ثم إني سأذكر لك نبأ أهل الزيغ من المشبهة عليها لعنة الله، وأقص عليك سبيل ضلالها عن الهدى ومن حيث ضلت وعميت.(1/275)


التشبيه في عهد رسول الله صلوات الله عليه وآله
واعلم رحمك الله أن فريقاً من المشبهة كانوا على عهد رسول الله صلى عليه وآله وعلى عهد علي أيضاً رحمة الله عليه، وقد ذكر الله عز وجل هولآء الذين كانوا على عهد نبيئه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في آي الكتاب الذي نزله فقال سبحانه: ?وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً?[الإسراء: 91]، وفيهم يقول سبحانه: ?لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا?[الفرقان: 21:23]، فعاب الله تبارك وتعالى كفرهم في اعتقادهم التشبيه في الله عز وجل، وجعل مصيرهم إلى النار بذلك.
وكذلك هؤلاء الملحدون، أيضاً، فهم على ذلك السبيل وبه يعتقدون، وعنهم وعن أشياعهم نقلوا هذه الروايات.(1/276)


أقوال المشبهة
فقالت فرقة منهم إن الله جل وتعالى خلق آدم صلى الله عليه على خلق نفسه، وإنه يضحك حتى تبدوا نواجذه، وقالت فرقة بل هو نور من الأنوار يكل عنه النظر ولا ينفذه البصر. وزعموا في زعمهم أن لله عرشاً مشتملاً عليه، وأن النبي صلى الله عليه وعلى أهله أسري به إلى السماء ووصل إلى الله عز وجل ووجد برد أنامله في جسده، وأنه سمع الله سبحانه وهو يقول: كن كن.
وقالت فرقة أيضاً إن الله تعالى ذكره يظهر يوم القيامة ويُرى عياناً. وإنه يكون يوم القيمة جالساً على العرش، ورجلاه على العرش، وإنه يكشف لهم ساقه ويحتجب عن الكفار فلا يرونه، فصغروا الله، سبحانه وجل ثناؤه، غاية التصغير، وجهلوا قول الله: ?وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?.
فنقول لهم: أيها القوم إنكم جهلتم الله سبحانه فلم تعرفوه، وأشركتم بالله عز وجل فلم توحدوه، والله سبحانه فقد وصف نفسه بغير ما وصفتموه، ونفى عن نفسه ما نسبتم إليه، فاسمعوا إلى قولنا وأنصفوا من أنفسكم، واقبلوا الحق إذا عرفتموه، ولا يفتننكم الشيطان ليخرجكم من أديانكم، فإن الله سبحانه يقول: ?وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً?[الفرقان: 29].(1/277)

55 / 172
ع
En
A+
A-