مسألة في العلم والقدرة والإرادة والمشيئة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
سألت، أكرمك الله، عمَّا يقال لمن سأل عن علم الله وقدرته وإرادته ومشيئته فقال: هل بينهما في المعنى اختلاف أم معناهما مجتمع على الائتلاف؟
واعلم هداك الله أن ليس بين ذلك شيء من الاتفاق بل هما على غاية ما يكون من الافتراق.
والحجة في ذلك أن علم الله وقدرته صفتان قديمتان أزليتان دائمتان - وليس قولنا صفتان قديمتان أن مع الله صفة يوصف بها، ولا أن ثم صفة ولا موصوفاً، ولا أن ثم شيئاً سوى الله عند ذوي العقول مجهولاً ولا معروفاً، وإنما نريد بقولنا صفتان أنهما غير محدثتين ولا مكونتين، وأنهما الذات والذات هما، فهو سبحانه العالم بنفسه، القادر بنفسه، فتعالى من ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11] - وأن إرادته ومشيئته حادثتان محدثتان.(1/268)


واعلم هُديت أن معنى الإرادة شاء، وأن معنى شاء أراد، ومعنى أراد هو شاء، وأن معنى المشيئة من الله تعالى للشيء هو إحداثه وخلقه، لا فرق بينهما في الله تبارك وتعالى، ولا يقال لله إنه شاء أن يخلق ثم خلق من بعد المشيئة، فيفصل بين المشيئة وبين الشيء بمهلة بعد، قلّت أم كثرت، وإنما يقع الفرق بين المشيئة وبين الشيء على الآدميين، ومن لا يحيط علمه بعاقبة فعله من المخلوقين، فيحتاج ويضطر إذا شاء الشيء أن ينويه ويضمره، ثم ينتظر به من الأوقات ما يصلح له صنعه فيه من الليل والنهار، وانتظار حركة منه أو قعود أو قيام، أو انتظار من يأمر من الأعوان، ثم لعله أن يعجز عمَّا أراد، أو يعجزوا هم، ولا يتهيأ له ولا لهم، والله تبارك وتعالى محيط بعلم الأشياء، لا يعزب عنه شيء من الغيوب، ولا يعجزه مستصعب من الأمور. إذا شاء شيئاً كان بلا كلفة ولا اضطرار، وليس المشيئة منه بالنية والإضمار، ولا بالمهلة والانتظار، مشيئته للأشياء إيجادها، وإيجادها مشيئته، فتبارك من كوَّن الأشياء بقدرته، ودل على نفسه بما ابتدع من فطرته.
فإن قال: قد فهمنا ما ذكرت وشرحت من الاختلاف بين العلم والقدرة وبين الإرادة والمشيئة، فما تنكر أن يلتئم هذا كله في أحد المعنيين، في أفضلهما وأقواهما وأكبرهما وأعلاهما؟(1/269)


قيل له: أنكرنا التئام ذلك كله على معنى واحد من أحد هذين الوجهين؛ لأنا علمنا أنا لو حملنا الإرادة والمشيئة على معنى العلم والقدرة، وقد علمنا وصح في معقولنا أنهما غير محدثين، ولا مخلوقين، وأن الله القادر العالم بنفسه، لوجب علينا أن نقول إن المشيئة والإرادة غير محدثتين، ولا مخلوقتين وأنهما صفتان للقديم الواحد الدائم الماجد؛ لأنه لا يكون قديماً إلا الله وحده لا شريك له، فلو قلنا ذلك، لوجب علينا أن نقول: إن الله سبحانه قد شاء إغراق فرعون وقومه قبل خطيئتهم وعصيانهم له، فتعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولوجب علينا أن نقول: إن الله قد شاء أن يسخط على إبليس، وشاء إخراجه من الجنة قبل خطيئته وعصيانه له. وقد بين وأخبر ربنا عن نفسه أنه لا يشاء عقوبة عبد من عبيده إلا من بعد الإعذار والإنذار. فإنا لوحملنا العلم والقدرة على معنى الإرادة والمشيئة، وقد علمنا وصح عندنا أنهما حادثتان، ولو قيل بذلك، لكان يلزم من قال به أن يكون قد ألحق بالله تعالى عن ذلك الجهل في الدهر الذي كان قبل تكوين العلم وإحداثه، ولكان يلحق بالله في قوله العجز، إذ كانت القدرة حادثة فيما كان قبل تكوين القدرة وإحداثها.
فسبحان المتعالي عن قول القائلين، وعن كل وصف الواصفين، فقد بان ولله الحمد وصح لذوي العقول والفطن والأفهام ما سميناه من الاختلاف، وتباعد الائتلاف.
تمت المسألة بحمد الله ومنه(1/270)


كتاب الرد على سليمان بن جرير
بسم الله الرحمن الرحيم(1/271)


حدوث صفات أفعال الله تعالى
ذكر الهادي عليه السلام ومن وافقه من العلماء - ما خالفه في ذلك إلا سليمان بن جرير وهو ممن يدعي العلم وهو من المجبرة - أن الرضى والسخط والولاية والمحبة من صفات الفعل، وأنها محدثة، وأنه تعالى لا يسخط ولا يرضى ولا يوالي ولا يعادي إلا عند وجود الأفعال من العبد التي يستحق بها ذلك.
ذكر عن سليمان بن جرير أنه قال: إن الله تعالى لم يزل ساخطاً على من علم أنه يعصيه، وراضياً على من علم أنه يطيعه، موالياً من لم يوجد من أوليائه، معادياً لمن هو معدوم من أعدائه، وأن العبد قد يكون مؤمناً والله تعالى معاد له ساخط عليه، إذا كان ممن يكفر في آخر عمره، ويكون راضياً عن الكافر موالياً له محباً له، إذا كان يؤمن بالله في آخرعمره.
قال الهادي إلى الحق عليه السلام:
واعلم أن السخط والرضى والولاية والمحبة كما ذكرنا من صفات الأفعال، والسخط: اسم لكراهية الفعل إذا وقع لوجود المكروه، وكذلك الرضى هو: اسم لإرادة الفعل إذا وقع من العبد على الوجوه المرادة. وكذلك يوصف من أراد فعل غيره، ووقع على مراده وعلى ما أراد بأنه راض عنه؛ ويوصف من كره فعل غيره، ووقع على ما كرهه بأنه ساخط له. وكذلك يوصف العبد بما دخل تحته من الأفعال. وقد يقال في الفعل الواحد إن زيداً راض به وعمراً ساخط له إذا أراده زيد، وكرهه عمرو. وإذا لم تكن حقيقة السخط والرضا ما ذكرنا، لم يمتنع أن تكون هذه الصفة من صفات الذات، وإذا كانت كذلك، فكان من علم أنه يطيعه مرضياً عنه وهو في حال كفره، فإذا كان العلم هو الموجب للطاعة والمعصية فلا مخرج للعبد إذا من ذلك.(1/272)

54 / 172
ع
En
A+
A-