وأنه أنزل على محمد كتاباً مهيمناً بلسان عربي مبين، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أحل فيه الحلال، وحرم فيه الحرام، وشرع فيه الشرائع، ثم قال: ?لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وإن اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?[الأنفال: 42]، فدعا محمد الداعي إلى معرفة الله والإقرار بربوبيته، وإلى خلع كل معبود من دون الله، وإلى معرفة نبوته، والإقرار بذلك ظاهراً وباطناً حتى يشهدوا بألسنتهم وقلوبهم أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى الإقرار بما جاء به من عند الله، والضمان لأَداء جميع ما فرض الله عليهم، والإيمان بملائكته ورسله، والإيمان بالموت والبعث والحساب والجنة والنار.
وأن يقيموا الصلوات الخمس في مواقيتها بحسن طهورها وإسباغ وضوئها وتكبيرها وخشوعها وقراءتها وركوعها وسجودها، والغسل من الجنابةبماءٍ طاهر وضوء وغسل إذا أمكن الماء وإلا فالتيمم بالصعيد الطيب، وصيام شهر رمضان باجتناب الرفث والفسوق والعصيان وغض البصر، والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً، والسبيل الزاد والراحلة للأصحاء البالغين.
والجهاد في سبيل الله بنية صادقة، ونصح لله ولدينه وللمؤمنين عامة، والبغض في الله وموالاة أولياء الله من دان بدين الله واعتصم بحبل الله، والمعاداة لأعداء الله من كفر بالله وفجر في دين الله.
وتحريم دماء المؤمنين وأموالهم وأذاهم، وموازرتهم على الإيمان، واستحلال دماء الكفار على ما كان يستحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا من أعطى الجزية من أهل الذمة من المجوس والنصارى والصابئين واليهود.
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإظهار الحق بقدرة، فمن لم يستطع فلا جناح عليه.(1/248)
وأداء الزكاة ووضعها على ما أمر الله في كتابه من قوله: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ?[التوبة: 60] الآية، ووضع الفيء والغنيمة على ما أمر الله في كتابه من قوله إذ يقول: ?مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ?[الحشر: 7]، وإذ يقول: ?وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى?[الأنفال: 41] الآية.
وإلى تحريم ما حرم الله في كتابه من ?الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ?[المائدة: 3] إلى قوله: ?بِالأَزْلاَمِ?، واجتناب الخمور، وشهادات الزور، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، والبخس في المكيال والميزان، مع ما حرم الله من نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وما ذكر معهن إلى قوله:?إلا مَا قَدْ سَلَفَ?[النساء: 23]، وأشباه ذلك مما قد ذكر الله من تحريم الزنى، وأكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل أموال اليتامى ظلماً، وإتيان الذكران من العالمين، وأخذ الرشا في الحكم، وتعطيل الحدود، والسرقة، والخيانة.(1/249)
حكم من لم تبلغه الرسل
فإن كان في الدنيا أحد لم تأته الأخبار فعلِم أنه وما أشبهه مخلوق، وأن الله خالقه وخالق الخلق، وأنه قديم وما سواه محدث، وأنه لا شبه له ولا نظير، وأنه عدل لا يجور، وحكيم لا يظلم، فقد أصاب جملة التوحيد والعدل. فإن شبهه بعد ذلك بيسير، أو شك في أنه يشبهه شيئاً، أو ظن أنه يظلم أو يجور، فقد نقض جملته، وخرج مما دخل فيه.
وأما من أتته الأنباء والأخبار، وقامت عليه الحجة بالرسل والكتب والأنبياء، فإذا هو عرف الجملة وأقر بها، وعرف الرسول، وشهد الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقر بجميع ما يأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه الحق، وضمن أداء جميع مافرض الله عليه، فهو يعد مؤمن مسلم، فإن جحد ذلك أو شك فيه بعد قيام الحجة عليه، فقد نقض جملته وصار بذلك من الكافرين.
ومن العلم بدين الله عندنا معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: معرفة من هو وممن هو، وأنه لا نبي بعده، وأنه لم يكن يعلم الغيب ولا ينتحله أحد بعده. وأن القرآن كتاب الله، وأنه أخبر فيه أن حجته بالغة، وأنها عند جميع الناس في لغاتهم معروفة، وأن أنبياء الله لم تزل تحتج بها وتقر أنها من خالقها، وأنهم جميعاً جاءوا بالبينات والآيات وهن الحجج، وأن تلك الحجج ميراث الأنبياء يورثونها أتباعهم.
وأن الله أبان رسله بالأعلام والدلالة التي لا يقدر الخلق عليها، ولا تكون إلا من فعل الخالق، كإحياء الموتى، وإلقاء العصا فصارت حية تسعى، وكمجيء الشجرة، وكلام الذئب، وأن هذا ما لا يعطى أحد إلا الأنبياء والرسل.(1/250)
وأن أتباع الرسل إنما يخبرون عن حجج الرسل، ويدعون إليها الناس، ويحتجون عليهم بها. وأن فيما احتج الله به أن جعل كتابه عربياً مبيناً بلغة العرب وكلامهم، وجعله مع ذلك لا يشبه الشعر ولا الرسائل ولا الخطب ولا السجع، ولكنه أبانه من ذلك كله، فلا يطيق أحد أن يأتي بمثله.
وأن الله قد أقام سنة نبيئه فيما لم يبينه في الكتاب مفسراً مشروحاً، من عدد الصلاة وأوقاتها وحدودها، وتفسير الحج والعمرة، وأن ذلك لا يكون إلا إلى الكعبة، وأنه جعل الزكاة في الأموال تؤخذ من الأغنياء وتوضع للفقراء.
وأنه لا يحل مال أحد من أهل الصلاة إلا بطيب من نفسه، أو بالميراث، أو بفرض يلزمه، أو بحق يجب عليه، وإن فجروا فقتلوا بالحدود، مالم يخرجوا من الملة وحرم منهم الدماء وجميع الحرمات، إلا ما أحل الله من إقامة الحدود على من أصابها ممن أقر على نفسه في صحة من عقله، أوقامت عليه بذلك بينة على ما بينه الله في كتابه وسنة رسوله عليه وعلى آله السلام.
وأن القصاص سواء بين أهل الملة جميعاً فيما بين شريفهم ووضيعهم، وأبرارهم وفجارهم، مالم يخرجوا من الملة.
وأن الله أوجب عليهم الامتناع من الظلم إذا قدروا، ومعونة المظلومين إذا استطاعوا، ولا يتعدوا في ذلك ولا في غيره حد الله.
وأن الصيام في شهر معلوم، شهر رمضان، سوى ما يجب لله من كفارة اليمين والظهار، وقتل الخطأ وفي التمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يجد الهدي، وفيمن أوجب على نفسه نذراً، وفيما أوجب على المسافر والحائض من قضاء ما فاتهم من شهر رمضان، وكذلك المريض ثم يبرأ، وفيما يتقون ويأتون من الطعام والشراب والنكاح، ومن الغسل من الجنابة.
وأن من الكتاب ناسخاً ومنسوخاً نحو أمر القبلتين، وإمساك النساء الفواجر في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً.(1/251)
وأن من تعمد أن يخبر بما يعلم أنه لم يكن فيقول إنه قد كان، أوبما يعلم أنه لا يكون فيقول إنه يكون، أو يقول قد كان فهو كاذب، أو بما لا يعلم أو بما لا يفعل فهو جاهل، وأن الله من ذلك بري.
وأن شرائع الأنبياء كانت مختلفة، وأنها على اختلافها يجمعها اسم الدين والطاعة، والإيمان، والهدى، والتقوى، والبر والإحسان، وأن بعضهم لم يقصص علينا باسمه، ولم يبين لنا في كتابه، ولا سمى نبياً بعينه، وأنَّ عِلْمَ ما جهلنا من ذلك كان ديناً وإيماناً فرضه الله على تلك الأمم ووضعه عنا.
وأنه لا يجوز لمدع دعواه إلا ببينة، فمن ادعا مما في يد غيره مما لا يدرك علمه إلا بالشهود لم يعط ما ادعا إلا بشاهدي عدل، أو بإقرار من المدعى عليه للمدعي. ثم بين سنته في الشهود فأبطل شهادة كل فاسق منهم أو خصم، وأن بعض الشهود ربما شهدوا بالزور والذي لا يعلمه إلا الله، وأن على الحكام أن يمضوا الشهادة مع جهلهم بما يعيب به الشهود، إلا أنَّ الله يعلم أنهم قد شهدوا على باطل.
وأنَّ أفضل الدين كله العلم بالله تبارك وتعالى وبدينه، وأنه لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بعلم في أثبات اسم ولا ثواب، وذلك أن من أقر بالحق ولم يعمل به لم يستحق الأسماء الزكية، ولا ثواب أهلها، ومن ضيع العلم بالله وبدينه لم ينتفع بشيء من عمله. وأنَّ كلهم متعلم، وكلهم محتاج إلى العلم مفضل له ولأهله، وذام للجهل عايب له ولأهله.
وأنهم لم يزالوا يتقربون إلى الله بالقول السديد، والعمل الصالح، ويعبدونه بذلك، ويدينون له بذلك.
وأنَّ اسم دينهم الذي تعبدهم الله به ودانوا به الذي بلغ بالإيمان والإسلام والتقوى والبر ونحو ذلك.(1/252)