باب ذكر أعمال العباد
وذكر الله أعمال العباد في كتابه: فقال:?يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ?[الزلزلة: 6]، إلى آخر السورة، وقال: ?إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?[الطور: 16]، وقال: ?كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ?[المدثر: 38]، وقال: ?أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية: 21]، وقال: ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا?[الحديد: 27]، وقال: ?مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?[النمل: 90]، فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العباد يعملون خيراً و شراً، وطاعة ومعصية، وأنهم يكتسبون، ويفعلون ويجترمون، ويبتدعون، وتكون منهم حسنات وسيئات، فكل ما فعلوه فإنما يفعلونه بقوة الله التي جعلها فيهم، ومنَّ بها عليهم، لا بقوة جعلوها لأنفسهم.(1/218)
باب ذكر مشيئة العباد وإرادتهم
وذكر الله مشيئة العباد وإراداتهم في كتابه: فقال عز وجل: ?تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء?[الأحزاب: 51]، وقال: ?يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ?[البقرة: 35]، وقال: ?وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء?[يوسف: 21]، وقال: ?قُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ?[الكهف: 29]، وهذا على الوعيد والتهدد وكذلك قوله: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[فصلت: 40]، وقال: ?يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا?[الفتح: 15]، وقال: ?تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ?[الأنفال: 67]، وقال: ?وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً?[التوية: 46]، وقال: ?وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا?[النساء: 27]، وقال:?وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا?[النساء: 60]، فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العباد يريدون ما قد جعل الله لهم السبيل إلى إرادته، ويشاؤن ما قد قواهم على مشيته، غير غالبين لله، ولا خارجين من سلطانه، وهذا خلاف قول القدرية الذين يزعمون أن ليس لأحد من الخلق مشيئة ولا إرادة، مع قولهم أنهم يريدون لأنفسهم الخير، والله يريد لهم بزعمهم الشر، ولا يدعهم يصلحون، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(1/219)
باب ذكر العبادة
ذكر الله في كتابه أنه خلق الخلق لعبادته فقال: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات: 56]، وقال: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ?[النساء: 64]، ولم يقل إني أرسلت الرسل ليكذبوا أو يقتلوا، ولا أني خلقت خلقي لعبادة غيري. وقال: ?اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى?[طه: 44]، وقال: ?وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?[البينة: 4]، فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن الله خلق الخلق لعبادته وطاعته، لالمعصيته والكفر به، كما زعمت القدرية أن الله خلق أكثر خلقه لعبادة غيره، ولم يخلقهم لعبادته تعالى عما قالوا علواً كبيراً.(1/220)
باب ذكر المخلوق
وذكر الله في كتابه أنه لم يفعل فعل عباده، وما لم يفعله لم يخلقه؛ لأن الفعل والخلق منه واحد، وقال: عز وجل: ?الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا?[الإسراء: 111]، فأخبر أن ليس له شريك في شي مما خلق، فلو كان الأمر على ما زعمت القدرية أن الله خلق الكفر كله، وفِعْل الكافر كله لا يملكه الله دون الكافر، ولا يملكه الكافر دون الله، ولا يقدر العبد أن يفعله، ومتى فعله العبد خلقه الله، وإذا لم يفعله العبد لم يخلقه الله، ومحال زعموا أن ينفرد العبد دون الله، أو ينفرد الله به دون العبد، ولو كان كما يقول الجاهلون لكان الله محتاجاً إلى المخلوق في فعله، وكان كل واحد منهما محتاجاً إلى الأخر فيه، وهذا الكفر بالله العظيم، تعالى الله عن هذه المقالة علواً كبيراً.
وقد نفى الله عن نفسه الكذب، والكفر، وأضافهما إلى عباده، فقال: ?وإن مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[آل عمران: 78]، فأخبر أن شركهم وكفرهم ليس من كتابه، ولا من عنده. فلو كان خلَقَه لكان من عنده، ولم يكن ليقول ليس من عندي وهو من عنده، تعالى الله عن الكذب علواً كبيراً.(1/221)
وقال: ?مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ?[المائدة: 103]، وقد علمنا أن الله خلق الشاة والبعير، فلم ينفي عن نفسه ما خلق، وإنما نفى عن نفسه تحريمهم ما حرموا، وكفرهم وحكمهم بما لم يأمرهم الله به، ولم يأذن لهم فيه، فقال: ?قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ?[يونس: 59]، فلو كان ذلك التحريم، وذلك القول الذي قالوا، وجعل ذلك الشَّق الذي شقوه في أذان أنعامهم منه، لم يكن ليقول مرة ليس هو من عندي، ومرة لم أجعله، ومرة من عندهم، ومرة لم آذن لهم فيهم، وهم الذين جعلوه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقال: ?وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ?[الأحزاب: 4]، فأخبر تبارك وتعالى أنه لم يجعل ذلك الذي جعلوه، ولم يقل ذلك القول الذي قالوه، وأنه قولهم بأفواههم، وأنه لا يقول إلا حقا، فلو كان خلقه وصنعه كما يقول من لا علم له لم ينفه عن نفسه، وينسبه إلى عباده، كما لم ينف عن نفسه خلق السموات والأرض، ولا شيئاً مما خلق، ولا نسب شيئاً مما خلق إلى فعل عباده، عز عن ذلك وتعالى علواً كبيراً.
وقال: ?إِنْ هِيَ إلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ?[النجم: 23] والسلطان الحجة، فلو كان خلقها وصنعها كما زعموا لكان قد أنزل لهم بها السلطان، والله يتعالى من أن يكون لأحد عليه حجة.(1/222)