باب ذكر التوحيد
إن الله تبارك وتعالى ذكر التوحيد في كتابه فقال: ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص.]، فأخبر سبحانه أنه الواحد الأحد الذي ليس بوالد ولا ولد، وأنه ليس له كفؤ ولا شبيه في وجه من الوجوه، وقال: ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا?، يقول: كفواً أو نظيراً، وقال: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى: 11]، وقال: ?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الأنعام: 103] ولم يقل في الدنيا دون الآخرة، فنفى عن نفسه درك الأبصار في كل وقت من أوقات الدنيا والآخرة، كما نفى عن نفسه السِنَة والنوم في الدنيا والآخرة، فقال: ?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ?[البقرة: 255]، كما نفى عن نفسه الظلم في الدنيا والآخرة فقال: ?إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ?[يونس: 44]، وكما نفى عن نفسه أن يكون له شبيه في الدنيا والآخرة على كل وجه من الوجوه بقوله: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى: 11]، وقال: ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:84]، فنفى عن نفسه أن يكون في مكان دون مكان؛ لأن من كان في مكان دون مكان فمحدود، والله غير محدود، ولا يحيط به شيء، وهو بكل شيء محيط، وقال:?مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ?[المجادلة: 7] الآية، فبهذه الآيات ونحوها أحتججنا على من خالفنا ومن شبه الخالق بالمخلوق، وعلمنا أن الله لا يشبهه شيء في وجه من الوجوه.(1/208)


باب في خلق القرآن
وذكر الله القرآن فقال: ?إنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر: 9]، فأخبر أنه منزل محفوظ، كما قال: ?وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ?[الحديد: 25]، وكقوله: ?وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ?[الزمر: 6]، وقال: ?وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا?[ق: 9] ولم يقل خلقنا الحديد والماء والأنعام، وكل ذلك مخلوق، وقوله: ?خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?[الرعد: 16]، وقوله: ?خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا?[الروم: 8]، وكذلك القرآن؛ لأنه شيء وهو بين السماوات والأرض، وليس القرآن من أعمال العباد التي أضافها الله إليهم في كتابه، ولا من صنعهم الذي نسبه الله إليهم، فالقرآن داخل في هذه الآيات دون عمل العباد كالأنعام والحديد.
وقال: ?وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا?[الشورى:52]، وقال: ?الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ?[الأنعام: 1]، فأخبر أنه نور والنور مخلوق.
وقال:?إنا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا?[الزخرف: 3]، وقال: ?خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا?[النساء: 1]، وكذلك خلق القرآن، إذ جعله قرآناً عربياً كما جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً، بأن خلقهما كذلك.
وقال: ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ?[الأنبياء: 2]، وقال: ?أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا?[طه: 113]، فأخبر أنه محدث، وأنه ليس بقديم، وإذا كان محدثاً فالله أحدثه، وهو مخلوق والله خلقه.(1/209)


وقال: ?وإن أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ?[التوبة: 6]، وقال: ?يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[البقرة: 75] وقال: ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمان?[الشورى: 52]، وقال: ?إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ?[النساء: 171]، وقال: ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ?[الحجر: 29]، وقال: ?وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا?[التحريم:12]، فأخبر أن القرآن كلامه، وروح من أمره، وأن عيسى كلمته وروح منه، وأنه نفخ في آدم من روحه، وكذلك في مريم، ثم أجمل ذلك كله فقال: ?إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ?[آل عمران: 59-60]، فأخبر أن معنى الكلمة والروح خلق من خلقه، وتدبير من أمره، وكذلك القرآن سماه كلامه وروحاً من أمره، ومعنى ذلك أنه خلق من خلقه، وتدبير من تدبيره وأمره. وقال: ?وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ?[النحل: 101]، وقال: ?مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[البقرة: 106]، فبهذه الآيات ونحوها خالفنا من زعم أن القرآن ليس بمخلوق، وعلمنا أنه مخلوق محدث وأن الله خالقه.(1/210)


باب ذكر عدل الله في كتابه
قال الله عز وجل:?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?[النحل: 90]، وقال: ?وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?[الأنعام: 152]، وقال: ?وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة: 8]، وقال: ?وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ?[الأعراف: 29]، وقال:?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ?[الأعراف: 33]، وقال: ?الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?[البقرة: 268]، فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العدل والإحسان من الله تبارك وتعالى، وأن الظلم والعدوان من عمل الشيطان وفعل الإنسان، والله من ذلك بري، تبارك وتعالى عمَّا يقول الجاهلون علواً كبيراً.(1/211)


باب ذكر قضاء الله في كتابه
قال الله تبارك وتعالى:?وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?[الإسراء: 23]، فأخبر سبحانه أنه قضى بعبادته، وبر الوالدين. وقال: ?وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ?[غافر: 20]، وقال: ?يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ?[الأنعام: 57]، ولم يقل إنه يقضي بالباطل، وقال: ?وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ?[غافر: 20]، وقال: ?إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ?[يونس: 93]، وقال: ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ?[آل عمران: 71]، وقال: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ?[الأنبياء: 18]، وقال: ?وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا?[الإسراء: 81]، فأخبر أن الحق من عنده ومن قضائه، وأن الباطل من المبطلين، ولا يكون الباطل من عند أصدق الصادقين. فبهذه الآيات ونحوها علمنا أنه لا يقضي بالباطل إلا المبطلون، ولا بالجور إلا الجائرون، تعالى الله عن ذلك رب العالمين.(1/212)

42 / 172
ع
En
A+
A-