شهادتهم لنا في العدل
وأمَّا شهادتهم لنا في العدل فإنهم شهدوا أن الله تبارك وتعالى عدل لا يظلم ولا يجور، وأنه خير للخلق من الخلق لأنفسهم، وهو أرحم الراحمين. ثم نقضت ذلك المجبرة بقول من قال منهم إنه كلف العباد ما لا يطيقون، وإنه أخرجهم من الطاعة، وإنه عذبهم على ما خلقه فيهم، وبقول من قال منهم إن الله يريد أن يعصى ثم يغضب مما أراد، وبقول من قال منهم إنه يعذب الطفل الصغير بجرم الشيخ الكبير، وبأقاويل كثيرة كلها تنقض قولهم إنه عدل لا يجور، تعالى الله عمّا قالوا. فعلمنا أن العدل الرحيم لا يفعل ذلك، إذ كان ذلك ممن فعله جوراً، وظلماً، وعبثاً، تعالى الله عن ذلك، فأخذنا بما شهدوا لنا به في أصل شهادتهم أنه لا يظلم، ولا يجور، ولا يعبث، وأنه حكيم حيم، عدل كريم، وتركنا ما نقضوا به جملتهم عند اختلافهم، فهذا ديننا، وحجتنا على من خالفنا في العدل.(1/203)
شهادتهم لنا في الوعد والوعيد
وأمَّا شهادتهم لنا في الوعد والوعيد، فإنهم شهدوا جميعاً أن الله تبارك وتعالى صادق في جميع أخباره، وأنه لا يخلف الميعاد، ولا يبدل القول لديه، صادق الوعد والوعيد في أخباره، ثم نقض ذلك المرجئة بقول من زعم أن الله جائز أن يغفر لمن قد أخبر أنه يعذبه، وخالف ذلك منهم من زعم أن الله يقول من زنى عذبته بالنار يوم القيامة، فيأتي الخبر من الله ظاهراً مطلقاً ليس معه استثناء، ثم لا يعذب أحداً من الزناة يوم القيامة، ولا تمسهم النار؛ لأنهم زعموا أنه استثنى ذلك عند الملائكة، فقال إني أعذبهم إن شئت، وإلا فإني أغفر لهم، أو يقول إلا أن أتفضل عليهم بالعفو، وإنما عنى أني أعذبهم إلا أن يغتسلوا من جنابة الزنى، فإن اغتسلوا من جنابة الزنا وفعلوا شيئاً من الخير غفرت لهم. فلما جوزوا ذلك في أخبار الله نقضوا معنى ما حكم الله به في وعده ووعيده، وادعى بعضهم الخصوص في الأخبار، فزعموا أن كل خبر جاء من الله عاما في الظاهر، فقد يجوز أن يكون خاصاً، كقول الله عز وجل: ?وإن جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ?[التوبة: 49]، فزعموا أنه يجوز أن يكون عنى بعض الكافرين دون بعض، وكذلك قوله: ?إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[النور: 23]، وأنه يجوز عندهم أن يكون في بعض القاذفين دون بعض، إلا أنهم يعلمون أن الكفار كلهم يعذبون بإجماع الناس على ذلك.
وأمَّا أصحاب الكبائر فيجوز عندهم أن لا يعذب أحد منهم، ولا تمسه النار، وزعم بعضهم أنه ليس في أهل الصلاة وعيد، وإنما الوعيد في الكفار خاصة دون غيرهم. وكل هؤلاء وغيرهم من أصناف المرجئة ناقضون لمعنى ما أخبر الله به في كتابه، وحكم به من وعده ووعيده.(1/204)
فلما شهدت لنا الفرق كلها أن الله صادق الوعد والوعيد، لا خلف لوعده، ولا تبديل لقوله، أخذنا بما أجمعوا عليه من ذلك، فلم ننقض معاني الأخبار كما فعلت المرجئة، وعلمنا أن الله تبارك وتعالى إذا أخبر بشيء كان كما قال، ولا تبديل لذلك، ولا نقض ولا تكذيب ولا نكث ولا تنسخ أخباره أبداً بشيء، ولا يظهر لنا خبراً، ثم يفعل خلافه، ولا يظهر لنا عموم الأخبار في وعده ووعيده ثم يجعلها خاصة من حيث لا نعلم؛ لأن ذلك كله غير جائز على الله، تعالى عمَّا قالت المجبرة والمرجئة علواً كبيراً، فهذا ديننا، وحجتنا على من خالفنا في الوعيد.(1/205)
شهادتهم لنا في المنزلة بين المنزلتين
وأما شهادتهم لنا في المنزلة بين المنزلتين، وقولنا إن أهل الكبائر من أهل الصلاة فساق فجار أعداء الله ظلمة معتدون، فإنهم شهدوا لنا بذلك فشهدنا بما شهدوا، ثم ادعى بعض الخوارج أنهم كفار، وأن فسقهم قد بلغ بهم الكفر والنفاق دون الشرك، ويقال إن الزيدية، أو بعضهم، يزعمون أن فسقهم قد بلغ بهم الكفر، وادعت المرجئة أنهم مع فسقهم مؤمنون، وخالفهم في ذلك عامة الأصناف.
وقالت المعتزلة هم فساق وفجار، لا يبلغ بهم فسقهم كفراً ولا شركاً ولا نفاقاً، وكذلك قالت المرجئة والعامة، وقالت المعتزلة أيضاً لا يجب لهم اسم الإيمان مع الفسوق، وكذلك قالت الخوارج والشيعة الزيدية، فوجدناهم كلهم قد أجمعوا على شهادة واحدة أنهم فساق فجار معتدون، فأخذنا بما أجمعوا عليه من ذلك، وتركنا ما اختلفوا فيه مما كذب فيه بعضهم بعضاً فسميناهم فساقاً فجاراً، وبرأناهم من الكفر والشرك والنفاق، إذ كانوا فيه مختلفين، ولم نوجب لهم اسم الإيمان إذ كانوا عليه عند إصابتهم الكبائر غير مجتمعين، ولم يكن في شيء من اختلافهم حجة من حجج رب العالمين، فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في المنزلة بين المنزلتين.(1/206)
شهادتهم لنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأمَّا شهادتهم لنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنهم شهدوا أن ذلك واجب إذا أمكن وقدر عليه، وشهدوا أن نصرة المظلوم فرض، والأخذ على يد الظالم فرض إذا أمكن ذلك، ثم اختلفوا بعد ذلك. فقال منهم قائلون: لا ندفع الظالم عن أنفسنا، ولا عن غيرنا إلا بالقول والكلام، وإن انتهبت أموالنا، وانتهكت حرماتنا لم نقاتل بالسلاح، وإن كان في ذلك دفع الظلم عنَّا وعن المسلمين، لكنا نترك الظالمين والباغين يبلغون منتهى حاجتهم منا ومن حرماتنا وأموالنا، ثم يمضون سالمين. وقال آخرون نقاتل وندفع عن أنفسنا وحرماتنا وأموالنا بالسلاح وغيره، فإن قتلنا رجونا أن نكون شهداء، وإن قتلناهم رجونا أن نكون سعداء. فلما شهدوا أن نصرة المظلوم ودفع الظالم والأخذ على يد الظالم فريضة لازمة لمن قدر عليها، علمنا أنه لا يخرجنا من هذه الفريضة إلا أداؤها، والقيام بها بالسلاح وغيره إذا أمكننا ذلك، فأخذنا بما أجمعوا عليه لنا في أصل شهادتهم، ولم نترك ذلك كما تركه الآخرون وهم على دفعه قادرون. فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الظالم.
فمن أقام على هذه الأصول كما أقمنا، ودان بها كما دنا، وعمل بما استحق الله عليه فيها فهو منا وأخونا وولينا، ندعوه إلى ما أجابنا، ونجيبه إلى ما دعانا. ومن خالفنا وفارقنا عليها حاججناه بالمحكم من كتاب الله، ورددناه إلى المجمع عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قبل ذلك كان له مالنا، وعليه ما علينا، وإن أبى إلا المخالفة للحق، والمعاندة للصواب كان الله حسيبه، وولي أمره، والحاكم بيننا وبينه، وهو خير الحاكمين، وقد ذكرنا من كتاب الله عز وجل تحقيق ما قلنا وتصديق ما وصفنا.(1/207)