ومنهم من دخل في ظلال الجبر والظلمة، ونبذ العدل والحكمة، وزاغ عن الهدى والرحمة، وقد قرع سمعه قوله تعالى:?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمران:18]، وقوله تعالى:?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ?[آل عمران:108]، ?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ?[غافر:31]، ?وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَاد?[البقرة:205]، ?وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?[الزمر:7]، وقالت الجبرية: بل أراده وشاءه وخلقه وارتضاه، فأبطلوا حجة الله على خلقه، بإنزال كتبه، وإرسال رسله، ونهيهه وأمره، وتهديده وزجره، وأسقطت عن أنفسها التكليف، وتلعّبت بالدين الحنيف، وقالوا كما قال الله في الذكر الحكيم: ?سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إن تَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وإن أَنْتُمْ إلا تَخْرُصُونَ?[الأنعام:148]، ولما كان في قولهم إسقاط الحجة ردّ عليهم بقوله:?قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ?[الأنعام:149]، أي إذا ثبت أنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، وألا علم عندهم، وما يتبعون إلا الظن، وما هم إلا يخرصون، فقد ثبتت الحجة لله على خلقه، وأنه سبحانه ما شاء إتيانهم القبائح، وارتكابهم الفضائح، ?فلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ?[الأنعام:149].(1/17)
فأخبر أنه لوشاء أن يجبرهم بالقهر والقسر لهداهم أجمعين، ولكنه جل وعلا مكّنهم من الأمرين، وبين لهم النجدين، وركّب فيهم العقول، وأرسل إليهم الرسول، ولو أكرههم لسقطت حكمة التكليف، وبطل مراده، وكانت الحجة عليه لا له على عباده، ?وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ?[الزمر:60].
ثم إنهم في زعمهم ليس لهم على صحة دينهم برهان قاطع، ولا بيان ساطع، يجوّزون الكذب الصراح في كل ما أتى به الشارع، لقولهم: إنه لا يقبح منه قبيح، ولنفيهم التحسين والتقبيح بالعقل، موادهم سقيمة، وأشكالهم عقيمة، طرق عاداتهم منسدة، وكم قاعدة لهم منهدة، إن لم يفعل الله شيئاً لشئ - أيتها الجبرية بزعمكم أنه يلزم الاستكمال تبعاً للفلاسفة الملحدين الجهال - فما معنى تعليل نفي الحجة عليه بالإرسال.
وكم آية في الكتاب هم عنها عمون، تنادي بالرد عليهم إن كانوا يعقلون،?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات:56]، وقال تعالى:?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ?[آل عمران:7]، فسمى الله تعالى المحكمات أم الكتاب، ترد إليهن المتشابهات؛ أو المؤولات من الخطابات، أنزلها الله زيادة في التكليف، وتعريضاً للابتلاء، ومضاعفة للثواب، هذا كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يدية ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.(1/18)
هذا وبيان شبه هذه الفرق وتقرير الرد عليها وتحرير الدلائل وما خالفت فيه من المسائل لا يحتمل مدار رحاه هذه السواقط، وإنما أردنا التنبيه لمن غفل عن مهاوي التلف، ومداحض المساقط.
وحجح الله تعالى واضحة المنهاج، بينة الفجاج، ودينه قويم، وصراطه مستقيم ?لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وإن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?[الأنفال:42]، وإليك النظر أيها المطلع، المتبع لكتاب ربه، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، إن كنت عن طريق الحق غيرحائد ولا لضروري المعقول والمنقول بجاحد؛ فالمقصود بالخطاب أرباب النظر والاعتبار؛ من ذوي الأبصار ?إنما يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ?[الرعد:19]، فأما من أعمى بصائرهم الهوى، وأغشى أبصارهم الردى؛ من طائفتي المتمردين والمقلدين؛ الذين ألفوا آبائهم ضالين فليسوا بمقصودين ?إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إن تُسْمِعُ إلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ?[النمل:80-81].
اللهم صل على محمد وآله؛ وأتمم علينا نعمتك في الدارين، واكتب لنا رحمتك التي تكتبها لعبادك المتقين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا هداة مهتدين، ?رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[الحشر: 10]، ?رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ?[النمل: 19].
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي
كَتَب بأمره ولده/ إبراهيم مجدالدين المؤيدي(1/19)
مركز أهل البيت عليه السلام للدراسات الإسلامية – صعدة(1/20)
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
أما بعد: فإن الله خلق الخلق في هذه الدنيا لعبادته، وأوجب عليهم معرفته، وأرسل رسله إليهم لتبليغ أحكامه، وإقامة الحجة على عباده، وكان آخرهم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأمره الله بتبليغ رسالته، وأداء أمانته، وأنزل معه قرآناً يتلى على عباده، وكان من أعظم مهماته - كما أنها من أعظم مهمات الأنبياء عليهم السلام من قبله - دحض الشبه، ورد الأباطيل، وبيان بطلانها، لا سيما في العقائد، لا سيما في ما يتعلق بمعرفة الله عز وجل، وإذا تصفحنا آيات القرآن الكريم وسوره، وجدنا صدْق ما قلناه، فمعظم آياته في رد شبه المشركين، ودحض شبه اليهود والنصارى، والرد على المجبرة، والدهرية، والرد على مرجئة اليهود، وقد قام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طوال حياته يدعو إلى الله، ويبين حججه وآياته، ويبين بطلان ما عليه المشركون ويكشف عوار عقائدهم، حتى أُلجئ إلى المحاربة العسكرية، فهزمهم عسكرياً ومعنوياً حتى صار كل من في الجزيرة يتبرأ من دينهم بعد أن كان مفخرة لهم، ولم يمت صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن علا صرح الدين، وشمخ بنيانه، وتقوّت أركانه، وسطع نوره.
ولضمان بقاء الدين، وحذراً من دغل المندسين، ولأن ظهور الإسلام لم يقضِ نهائياً على حزب الشيطان، بل ظهوره وسيطرته جعلتهم يتخذون النفاق وسيلة أخرى لحرب الدين وأهله، ولكون الأهواء ستظل تنتج أفكاراً ورجالاً تحارب الحق وتحاول طمسه واستبداله بما يشابهه من الباطل، من أجل هذا كله، ومن أجل بقاء نور الحق ساطعاً، ومشعله متوقداً ليهتدي به من أحب معرفة الحق، جعل الله نصاب ذلك النور وموضعه - وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته - أهل بيت محمد عليه وعليهم السلام.(1/21)