أو تكون محدثة مكونة تُعلم ويكون الله أوجدها من بعد العدم، فيدخل بذلك العجز على الله والتضعيف، فتعالى عن ذلك القوي اللطيف، لأن ضد القدرة العجز، فمتى عدمت القدرة ثبت العجز، فيلزم من قال بإحداث قدرة المهيمن القادر أن يقول إن الله كان عاجزاً غير قادر، فإن كان كما يقول الجاهلون، وينسب إليه الضالون: إنه كان ولا يقدر، حتى أوجد وخلق ما به قدر، فبماذا ويلهم خلق القدرة التي يذكرون أنه خلقها من بعد العدم ويقولون، فإن كان الله أحدثها وهو غير قادر، وأوجدها وصورها وفطرها وهي التي لا شيء يعدلها، ولا شيء من المجعولات إلا وهو دونها، إذ لا يُوجِدُ شيئاً ولا يخلق إلا بها بغير ما قدرة منه عليها فلقد كان فعله في غيرها أنفذ، ومراده في سواها أوكد، فبِم ويلهم خلقها وأوجدها وهو يوجد مثلها بغيرها؟ فلقد كان عنها مستغنياً، وبما خلقها به مكتفياً مستعلياً، فتبارك عن ذلك ذو الجلال وذو الجبروت، الواحد الحي الصمد الذي لا يموت، القادر العالم بنفسه، البري من شبه خلقه، الذي لم يزل ولا يزال، وهو الواحد ذو القدرة والجلال، الأول لا ثاني معه والآخر الذي لا شيء مثله.(1/183)
باب تفسير معنى قوله الحي
لوْ قال قائل أو سأل عن معنى الحي سائل.
قيل له: الحي يخرج على ثلاثة وجوه:
فمنهن: المتحرك من ذوي الحواس المفهومة، من الملائكة والجن والإنس وغير ذلك من الخلائق المعلومة وغير المعلومة، ذوات الأرواح الجائلة المستجنة فيما خلق الله لها من الأبدان، التي هي فيها مستكنة، كما قال عز وجل: ?وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[النور: 45]، فكلها حي ما دام فيه روحه، فإذا خرج روحه حلت به وفاته وموته، والله من ذلك سبحانه فبري، وعن التجسم والزوال فمتقدس عليّ.(1/184)
والمعنى الثاني: فما يحييه وينشئه لجميع المخلوقين مما يذرأ ويخرج للعباد، بالماء المبارك في الأرض ذات المهاد، من النخيل الصنوان وغير الصنوان، ذات الطلع الهضيم، وغيرها من رزق الواحد الكريم، من النبات والفواكه والأشجار، التي تخرج وتحيا بما ينزل عليها من الأمطار، كما قال ذو المن المهيمن الجبار: ?وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ?[الأنبياء: 30]، وقال سبحانه: ?وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ?[الحج: 5]، وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ?وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلا كُفُورًا?[الفرقان: 48]، ومثل هذا مما ذكره الله أنه يحييه بالماء مما نعاين ونرى فكثير غير قليل، في واضح ما أنزل الله من التنزيل، فهذه أجسام تحيا بالماء، ليست بذوات أرواح جائلة في الأجسام، كما تجول الأرواح فيما خلق الله من الدواب والهوام، وإنما حياتها اخضرارها، وكمون الماء فيها وارتوائها، فسمى الله ما كان كذلك حياً كما ذكر سبحانه في كتابه، وكذلك تقول العرب لما كان من الأشجار على ذلك، تقول: هذه نخلة حية، إذا كانت مخضرة روية، والله سبحانه فبريء من هذا المعنى، ومن مشابهة شيء من الأشياء.
والمعنى الثالث: فهو الذي لا يجوز غيره في الله ذي السلطان وذي الجبروت والرأفة والإحسان، وهو أن معنى الحي هو الذي يجوز منه الفعل والتدبير، وذلك فهو الله الحي الدايم اللطيف الخبير.(1/185)
باب تفسير قوله السميع والرد على من قال إنه سبحانه يسمع بجارحة
إن سأل سائل: عمَّا ذكر الكريم في القرآن من قوله: ?وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[الأنعام: 13]، فقال ما معنى السميع عندكم وما معناه في أصل قولكم؟.
قيل له: يخرج ذلك على معان أربعة معلومة معروفة عند جميع العرب مفهومة.
فأولهنّ: أن يكون معنى سميع هو عليم، والحجة في ذلك قول الرحمن الرحيم: ?أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ?[الزخرف: 80]، والسر هو ما انطوت عليه الضمائر ولم يبد، فذلك أسر السرائر، والنجوى هو ما يتسار به ويخفيه المتناجون من الكلام والمحاورة في ما يخفون ويكتمون. والسر الذي في القلوب فلن يسمع؛ لأنه مستجن لم يبن فيشرح ويسمع، وإنما يسمع ما ترجمه اللسان، وباح به ضمير الإنسان، وإنما أراد ذو الجلال بما قال في ذلك من المقال التوبيخ لهم والإخزاء، والتوقيف على ما يأتون به من الخطأ، إذ يتوهمون أن الله يخفى عليه خافية، سراً كانت أو علانية، فقال: ?أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم?[الزخرف: 80] يقول: لا نعلم ونحيط من أمرهم ما يكتمونه من سرهم، ويكنونه في غيابات ضمائرهم.
والمعنى الثاني: في اسم الواحد الباري أن يكون السميع هو المجيب للداعين، ممن دعاه من عباده المؤمنين، والحجة في ذلك فما حكى الواحد الكريم عن نبيئه زكريا وخليله إبراهيم، حين يقول زكريا: ?رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء?[آل عمران: 38]، وقول خليله إبراهيم الأواه الحليم: ?إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء?[ابراهيم: 39]، يعني عليه السلام: إن ربي لمجيب لمن يشاء من الأنام، وفي ذلك ما تقول العرب لمن سأل من الله أو طلب: (سمع الله دعاك)، أي: أجاب طلبتك.(1/186)
والوجه الثالث: قول القائل من الراكعين المصلين: سمع الله لمن حمده، ومعناه أي: قَبِل الله ممن حمده، وأثاب على شُكْرِه من شَكَره.
فهذه الثلاثة الوجوه اللواتي يجوز أن يوصف بهن الرحمن وهن فواضحات عند من عرف العربية والبيان.
والوجه الرابع: فلن يجوز على الواحد الجليل، في شيء من الأقاويل، وهو موجود في المخلوقين، متعال عنه رب العالمين، وهو الإصغاء بالأذان والإنصات لجولان دواخل الأصوات، ومستقر مفهوم القالات، فتعالى عن ذلك المهيمن الكريم، المتقدس الواحد الفرد العظيم. وكيف يكون سبحانه كذلك، أو يجوز المقال لمن قال فيه بذلك، وقد يسمع قول ذي الجلال والقدرة والمحال: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى: 11]، وقوله: ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص.]، والكفؤ فهو المثل والنظير، في الصغير كان أو في الكبير، فلو كان ذا جوارح لكان ذا أعضاء، ولو كان ذا أعضاء لكان جزءاً فيه أجزاًء، ولو كان أجزاءاً لكان بلا شك جسماً، ولو كان جسماً لجرت عليه الحوادث والأزمان، ولأشبه ما خلق من الإنسان، ولو كان كذلك لم يكن بخالق ولكان مخلوقاً؛ لأن كل جسم لا بدَّ له من جاعل مُجسِّم، إذ لا بد لكل مجعول من جاعل، كما لا بد لكل مفعول من فاعل، ولكل مصنوع من صانع، ولكل مقطوع من قاطع، فسبحان من ليس كذلك ولا على شيء من ذلك، لا تحيط به الظنون، ولا يصفه الواصفون، إلا بما وصف به نفسه من قوله هو، وأنه كما قال سبحانه في آخر الحشر: ?يزُ الْحَكِيمُ?[الحشر: 22: 24].(1/187)