باب تفسير العلم في الله والرد على من قال إن لله علماً سواه به يعلم الأشياء
إن سأل سائل: فقال: ما تقولون في الله ذي الجلال: ألَهُ علم؟
قيل له: إن معنى قولك: (لله علم)، يخرج على ثلاثة معان معروفة بينه وكلها في اللسان فواضحة منيرة:
منهن: أن تكون تريد أن له علماً أنزله على المرسلين، وعلّمه إياهم ومن تبعهم من المؤمنين، مثل: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان الجليل، فنحن بذلك في الله نقول.
والثاني: أن تكون تريد أنه العالم بالأشياء، الذي لا يخفى عليه سر ولا نجوى، وأنه يعلم ما لم يكن مما سيكون؛ كما يعلم ما قد كان من الفعل وبان، فكذلك قولنا في الله ذي السلطان.
والثالث: أن تكون تقصد، وفيما ذكرت من قولك تعمد، أن لله علماً سواه، به يعلم في الحالات ما يكون من المعلومات، وهذا في الله سبحانه فأحول المحال، وأبطل ما يقال به من المقال؛ لأنه لو كان كما تقول وتُعبِّر، أوكان على شيء مما تذكر وتسطر لم يخل من أحد معنيين، وكلاهما عن الله سبحانه زائلان:
إما أن يكون هذا العلم الذي شرحت وقلت وادعيت وذكرت علماً أزلياً قديماً مع الله أولياً، فتثبت حينئذ الأزلية لشئين، ويصح القدم لقديمين اثنين، وهذا فإبطال التوحيد، والإشراك بالواحد الحميد، ودفع ما قال في كتابه، الذي أنزله على خير عباده، حين يقول سبحانه وجل عن كل شأن شأنه: ?هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد: 3]، وقوله سبحانه: ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ?[الزمر: 62]، وكيف يكون أولياً أبدياً من كان معه في الأولية ثان؟ وكيف يخلق كل شيء من قد كان معه قبل خلق الأشياء شيء؟ فتعالى عن ذلك الرحمن العلي.(1/178)


أو أن يكون هذا العلم الذي ذكرت، وفيه تكمهت وقلت شيئاً أوجده الخالق المصور من بعد، وأخرجه من العدم إلى الوجود الواحد المقدر، فيكون في هذا غاية التجهيل لمن له القدرة المهيمن الجليل؛ لأنه إن كان إنما علم الأشياء بما خلق من العلم وذرأ، فقد كان الله الواحد الكريم من قبل إيجاد العلم غير عليم، ومتى زال عنه في حالة من الحالات أن يكون عالماً بالسرائر والخفيات، أعقب ذلك الجهل أكبر الجهالات، لأن العلم والجهل ضدان مختلفان، وفي كل المعاني متباينان، ومن نسب إلى الله سبحانه الجهل في حالة من الحالات أو نفى عنه العلم في وقت من الأوقات، فقد أشرك به، جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله، ومن أشرك به فقد جحده، ومن جحده فقد أنكره، ومن أنكره فلم يعرفه، ومن لم يعرفه فلم يعبده، ومن لم يعبده بعرفان، ويعرفه بغاية الإيقان، فهو كما قال الله سبحانه في واضح الفرقان فيما نزل على نبيه من النور والبرهان حين يقول: ?أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً?[الفرقان: 44] وكما قال سبحانه: ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ?[الأعراف: 179] صدق الله ورسوله، إن في خلقه لمن هو كذلك، وعلى ما ذكر الله سبحانه من ذلك، من غير أن يكون أدخلهم فيه، ولا جبلهم عليه، تبارك وتعالى، بل هو منهم اكتساب، وقلة إنصاف منهم للألباب، ومكابرة للحق، ومعاندة للصدق، واقتداء من الأبناء بمن مضى من جهلة الآباء، فتبارك الله العالم بنفسه، العادل في كل فعله، الذي لم يزل عالماً خابراً، ولم يكن في وقت من الأوقات بشيء جاهلاً.(1/179)


باب تفسير القدرة والرد على من زعم أن لله قدرة سواه بها قدر على الأشياء
وكذلك قولنا لمن سأل عن قدرة ربنا فقال: هل لله قدرة فيما تقولون وإليه تذهبون مما تتقلدون؟
قيل له: إن معنى قولك هذا يحتمل ثلاثة معان مختلفات، متفرقات غير مجتمعات في شيء من الجهات:
فمنهنَّ: أن تكون تريد بسؤالك عن قدرة الرحمن على ما خلق وذرأ ذو المن والسلطان من عجائب ما خلق من المخلوقات، ومدبرات ما دبر وافتطر من المفطورات، من الأرضين والسماوات، وما سوى ذلك من المجعولات، اللواتي يشهدن لمدبرهنَّ بالحول والقوة، وينطقنّ له في كل آوان بالقدرة، فكذلك نقول وإليه بلا شك نؤول.(1/180)


أو أن يكون رأيك ومقصدك، ومذهبك في ذلك ومعتمدك، ما خلق سبحانه وأعطى، وبث في الخلق وذرأ، من القدرة التي أعطاها جميع الخلق، من الاستطاعة التي بثّ في جميع أهل الباطل والحق، ليعبدوه بها ويطيعوه، ويستعملوها في طاعته ويرضوه، ثم هداهم النجدين ومكنهم في ذلك من العملين، ولم يحل بينهم وبين أفعالهم ليجازيهم على جميع أعمالهم، ثم أمرهم بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، ثم قال: ?مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?[النمل: 89]، وقال: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?[الزلزلة: 7-8]، ثم قال من بعد الإعذار والإنذار، والدعاء والتبصير والإخبار: ?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إنا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وإن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا?[الكهف: 29]، فقصد للطاعة قاصدون، ونكب عنها ناكبون، ورفض قوم الهوى، وركبوا التقى، وترك قوم التقى، واتبعوا الهوى، فحق للمطيعين الوعد من الرحمن بالجنان، ووجب على العاصين ما أوعد من النيران، وفي أولئك ومن كان من الخلق كذلك ما يقول ذو السلطان والجبروت، وذو الرأفة والقدرة والملكوت: ?فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى?[النازعات: 37:41)]، وقال فيمن دُعِيَ إلى الحق فأبى، وأُمِرَ بالطاعة فعصى، وآثر على الحق الهوى: ?فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ(1/181)


وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ?[القصص: 50]، وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ?أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ?[الجاثية: 23]، وقال: ?أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً?[الفرقان: 43.]، فإن كنت تريد هذا القول، فإنّا به، ولله الحمد، نقول، ونشهد بالمنة فيه للعلي ذي الطول.
وإن كنت تريد بقولك، وما تتكلم به من كلامك: أن لله قدرة سواه بها يقدر على ما يريد ويشاء، تعالى الله عن ذلك العلي الأعلى، فهذا ما لا نقوله ولا نذهب إليه، ولا نجيزه؛ لأنه من المقال قول فاسد محال؛ لأن القدرة لو كانت كذلك، تعالى الله عن ذلك، لم تخل من أن تكون قديمة أولية؛ فتكون ثابتة مع الله أزلية، وهذا فإبطال التوحيد، وعين المضادة لله الواحد الحميد، وإبطال القرآن، وتكذيب الرحمن؛ لأنه سبحانه يقول: ?هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد: 3]، ويقول: ?لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ?[غافر: 16]، فقال سبحانه: هو الأول، فذكر أنه الأول قبل كل شيء، ولا يكون الأول إلا فرداً لا ثاني معه، كما لا يكون الآخر إلا الذي لا شيء بعده، وكذلك الواحد فهو الذي لا ثاني معه، وذلك الله الجليل الرحمن، المتعالي عمَّا يقول حزب الشيطان، فهذا من قولهم فمعنى فاسد باطل، وعن الحق والحمدلله حائل.(1/182)

36 / 172
ع
En
A+
A-