ومن ذلك فالشيء المنقلب من الحالة إلى الحالة، مثل الإنسان وخَلْق الله له من السلالة التي خلقها وقدرها من طين، وجعله إياه نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، ثم خلق العلقة مضغة، ثم خلق المضغة عظاماً، ثم كسا العظام لحماً، ثم أنشأه خلقاً آخر؛ فتم بقدرته في الحالات جسماً واحداً، كامل الأدوات وذلك قوله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ?[المؤمنون: 12-14]. و(الخلق الآخر) فقد يحتمل أن يكون ما جعل فيه من بعد أن كساه لحماً من العروق والعصب، والمفاصل والقصب، وما فطر من عجيب خلق الرأس، الذي جعله سواء في جميع الناس، فجعله سبحانه قواماً للبدن كله، وأظهر فيه أعاجيب صنعه وفعله، فخلقه قطعاً، وجعل فيه طرقاً، لما فيه من الأدوات، فكلهن فيه سالكات جاريات متشعبات، ولخالقهن بالقدرة شاهدات، وبلطيف تدبيره فيهن ناطقات، ثم ركب فيه العينين وحجر فيه المحجرين، وجعل في المحجرين الغارين، وصور في الغارين المقلتين، وخلق في المقلتين الناظرين وجعل المحيط بإنسانهما - لتكامل التحقيق من عيانهما - أغشية من مدلهمات الجلابيب، ومتكاثفات اسوداد الغرابيب، صافيتي الأنطاق، ناصعتي الأطباق، جعلهما جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله شحمتين، اختص أوساطهما بالسواد، وجعله آلة للنظر في القرب والإبعاد، ولغير ذلك من الانحدار والاصعاد، ثم جعلهما حصينتي الاطباق، حديدتي الآماق للإدارة والإطراق، وتقلب المقلة في الحملاق، وغشاهما بأرواق الأجفان، بالرأفة منه سبحانه والإحسان، والعائدة بالفضل على الإنسان، ليلتئم عند الهجوع(1/163)
مطابقهما، وتطمئن لذلك علايقهما، وتريح من الحركة مدامعهما، ليقوى نظرهما، ويثقب بصرهما، ولو كان مكان سواد إطباقهما ناصعاً ببياض نطاقهما، لقصرتا عن بلوغ مناظرهما، ولعجزتا عن تحديد أبصارهما، ولكثر إغماضهما، ولقل إيماضهما. ثم حجب عنهما سبحانه بأجفانهما الأذى، وأماط عنهما بأشعارهما القذا، فلما أحكمهما بالتقدير، وأتقنهما بالتدبير، غشاهما بالحاجبين، وأظل بالحاجبين ما استجن من العينين؛ لعلمه سبحانه بضرورة الناظرين إلى ما ركب من الحاجبين. ثم جعل فيهما من بعد إتقان تدبيرهما شعراً مسوداً ظاهراً عليهما، ليزيد سواده في قوة نظرهما عند استقبالهما لبعد اعتمادهما، ولو لم يكونا بزينة الشعر مخصوصتين، وكانتا مما زينتا به محظوظتين، لنقص من العينين نظرهما، ولتضوع في أرجائهما نورهما، ولغشي عن مقر التحقيق بصرهما.
ثم مثل بينهما خالقهما أنفاً مستروحاً لأنفاسه، موقوفا لرجعه واحتباسه، فأقام رسم خده، وأحسن التصوير في قده، وجعله هواء معتدلاً سواء، ولو لا ما دبر فيه، وركبه من الإحكام عليه، لم يؤد بلطيف اعتباره، ودقيق اختياره المحسوس إلى قراره، ولعجز عن بلوغ مدى الاسترواح، ومستقر غاية الأرواح، فجعل سبحانه من أصليته ناشراً، وجعل في سوائه حاجزاً، لتوقيف رجع الأنفاس، بين العجلة والاحتباس، قسمه بحكمته، لتكامل لطيف نعمته.
ثم شق تحت وترَ أرنبته، مسلك ما قدر من أغذيته، وخلق فمه مؤديا عن منطقه ولفظه، بين طبقتين خلقهما لحفظه، فجعله لحماً، وأجرى فيه عروقاً ودماً، ولو جعله عصباً قاسياً، أو فطره عظماً جاسياً، لكان ذلك من الترجمة مانعاً، وعن الجولان بالحركات قاطعاً، فسبحان من جعله معبراً عن ضمائر الصدور، ومترجماً لكل ما تميزه العقول من الأمور، وركب فيه استطاعة لفظه، وخصه بالوافر من حظه، وأجرى فيه عذوبة ريقه، لتمييزه بين مختلف ذوقه.(1/164)
ثم علق على أقاصيه عقد لهاته؛ لتعرف بها لذيذ شهواته، نعمة من الخالق على خلقه، ليلتذوا بالطيبات من رزقه، ولو كان موضعها منها عاطلاً، لم يكن الالتلذاذ إلى ملتذه واصلاً، ولرجعت مختلفات أنفاسه، إلى المكنون من أم رأسه.
ثم فتق سبحانه وعظم عن كل شأن شأنه بعد ذلك في مرتقها سمعاً، جمع به محكم الآلات جمعاً، فأدى ذلك إلى العقول عظمة خالقها، وشملت الجوارح به نعمة جاعلها، وألبس أرجاء السمع أذناً، لاستقرار جولان الوحي في محاله، وازاحة الشك النازل به وإبطاله، ثم عطف سبحانه أطراف غرضوفهما، على البواطن من حروفهما؛ للحوق جولان الأصوات، ولولا ذلك لعجزت عن درك القالات، مع ما ركب من غير ذلك في ظاهره وباطنه من المركبات، وجعل فيه سبحانه كلما يحتاج إليه الجسم من الآلات والأدوات، ثم علق في صدره قلباً، وركب فيه لباً، ثم جعله وعاء للعقل الكامل، وحصناً للروح الجائل، حفظه من مزدحمات الأغذية بانحطاطه، ورفعه عن مقرها من الجوف بمتعلق نياطه، فقر بتدبير الخالق في أحصن حصن وأبعده مما ركب، وجعل في البطن وفوقه من الصدر هواء، وتحته أدوات ومعاً، فهو مقر لثابت الأنفاس، متملك لخدمة جميع الحواس، إن شاء شيئاً شِئنه، وإن أباه بلا شك أبينه، به تنزل مدلهمات الغموم، وإليه مأوى نوازل الهموم، وعند انشراحه للشيء يوجد به الفرح والسرور، وبقبوله تكمل الغبطة به في كل الأمور، جعله الله آلة للفطن والفكرة، وفطره الله تعالى على ذلك من الفطرة، وذلك قول الرحمن، فيما نزل من الفرقان: ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ?[الحج: 46]، وقال سبحانه وعظم عن كل شأن شأنه: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ?[ق: 37 )] يقول: إن فيما تقدم من(1/165)
فعلنا، بمن مضى ممن نزل عليه ما نزل من عذابنا، لذكرى لمن كان له قلب يعقل به، ويفهم ويتدبر ما يرى من فعلنا، فيعلم.
وقد يحتمل ويكون معنى قول الرحمن فيما نزل من واضح النور والفرقان: ?ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ?[المؤمنون: 14)]: هو ما ميز من خلق الأنثى والذكر، فيكون لما أن كسا العظام لحماً جعله من بعد ذلك ذكراً أو أنثى، فحينئذ بقدرة الله تمت السلالة، وفيما قلنا به من الخلق ما يقول الله عز وجل في سورة القيامة من خلق الزوجين، فهذا عنديوالله أعلم فأشبه القولين.
ثم نرجع من بعد شرحنا للواحد المؤتلف، والواحد المنتقل المختلف، والله فبري من ذلك تبارك وتعالى أن يكون ربنا كذلك.
فنقول: إنه قد يخرج معنى قول القائل: واحد في اللسان، وفيما يقال به فيه من المعنى والبيان، أن يكون الواحد من الإثنين المتشابهين في المعنى، المتقاربين في الصفة والاستواء، فيقال هذا وهذا مثلان، وهما إذا ذكرا وقيسا شيئان، وهما في التشابه والاتفاق واحد بغير ما افتراق. والله سبحانه فعن مشابهة الأشياء كلها أو مشاكلتها فبري، وعن مناظرة المجعولات فمتعالٍ عليّ.
وقد يخرج معنى الواحد، فيقال به فيه، ويستدل به في لغة العرب عليه، على معنيين:
أحدهما: الباين بالسؤدد والإفضال، فيقال: هذا واحد في فعله من الرجال؛ إذا فعل ما لا يفعله غيره، ويقصر عنه آله وقومه.(1/166)
والآخر: إثبات الواحد ونفي الثاني، إذ الواحد لا أول قبله، والثاني فقبله عدد وبعده. ويخرج معنى قولنا الواحد على أنه لا شبيه له ولا نظير، ولا كفو صغير ولا كبير، وهو الله الواحد الأحد الخبير، فالله سبحانه الواحد في فعله، الذي لم يصنع أحد كصنعه، الخالق الذي لا خالق سواه، كما قال تقدست أسماؤه: ?هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم?[فاطر:3]. وهو الواحد الذي لم يكن من شيء، وهو الموجد لكل شيء، لم يكن سبحانه من أصل، ولا يكون منه أبداً فصل: ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص.]. الواحد في الربوبية والقدرة والعزة، والملك والكبرياء والعظمة، وكل قادر فمقدور عليه، وكل ملك فمسلوب ملكه من يديه، وكل عزيز فأيسر العزة نال، غير الله الواحد ذي الجلال، وذي العز الكامل الدائم، والملك السرمد الباقي الدائم، القادر فلا يُقدَرُ عليه، العادل فلا ظلم لديه، البري من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، لا تحيط به الأقطار، ولا تجول بتحديد فيه الأفكار، ولا تنتظمه الصفات والأخبار، ولا تدركه سبحانه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. القائم سبحانه بنفسه، الذي لا قوام لغيره إلا به، لا تجري عليه الأزمنة، ولا تحويه الأمكنة، وكيف تجري الأزمنة أو تحوي الأمكنة من كوَّن كل مكان، وأوجد بعد العدم كل زمان؟! وهو الله الواحد الرحمن، سبحانه وتعالى ذو المن والإحسان.(1/167)