باب تفسير قول الله سبحانه ?وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ?، ومعنى مخرج النفس في الله في اللغة
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: إن سأل عن النفس سائل فقال: ما معناها عندكم في الله تبارك وتعالى، وعلى ما يخرج فيها تفسيركم؟ فقد نجد الله تعالى يقول لنبيئه موسى صلى الله عليه: ?وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي?[طه: 41]، ويقول: ?وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ?[آل عمران: 28].
قلنا له: أيها القائل المتحير في أمره السائل، إن الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه، لم يرد النفس التي تتوهم، وإياها تقصد حين تتكلم، من الأنفس المتنفسة بالروح، المحتاجة إلى الراحة والروح، المستكنة في الأجواف، الجايلة في كل الأعطاف، وكيف يكون ذلك؟! وكل روح أونفس فمن خلقه كانا، بغير ما شك ولا لبس، ألا تسمع كيف يقول عز وجل؟! ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إلا قَلِيلاً?[الإسراء: 85]، يريد سبحانه من خلق خالقي، وإحداث فاعلي ومحدثي، ولو كان على ما يتوهمه المشبهون، ويقول فيه المبطلون، من أنها نفس في شيء، إذا لقيل إنهما اثنان، إذ النفس والشيء شيئان، ولو كانت نفساً مستجنة في شيء، لكانت النفس خلافاً لذلك الشيء، وللزم ذلك الشيء العدد والتحديد، والتحرك والتحرف، والانحدار والتصعيد، فتبارك من ليس كذلك، ولا على شيء من ذلك، بل هو الله الواحد الأحد، المتقدس الصمد الذي ليس له شبه ولا مثيل، ولا ضد ولا عديل.(1/153)


فأما قوله سبحانه: ?وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي?[طه: 41]، فإنما أراد بذلك اصطنعتك لي، وقربتك نجباً مني، وكذلك قوله: ?وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ?[آل عمران: 28] يريد يحذركم عقابه لتخافوه، وفي كل أموركم تتقوه، وفي سرايركم تراقبوه، والقرآن فإنما نزل على العرب بلغتهم، وخاطبهم الله فيه بكلامهم، والنفس تدخلها العرب في كلامها صلة لجميع ما تأتي به من مقالها، وقد تزيد غير ذلك في مخاطبتها، وما تسطره من أخبارها، مثل (ما)، و(لا)، وغير ذلك، مما ليس له عندها معنى، غير أنها تحسن به كلامها، وتصل به قيلها وقالها، من ذلك قول الرجل لصاحبه: (أتيتك بنفسي)، و(أتيتني بنفسك)، وإنما يريد: أتيتني أنت دون غيرك، وتقول العرب: (ما منعك ألا تأتيني)، تريد: ما منعك أن تأتيني، فأدخلت (لا) صلة لكلامها، وأثبتتها كذلك في كتابها، وفي ذلك ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل على نبيه من الفرقان العظيم، من قول موسى عليه السلام ?يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي?[طه: 92]، فإنما أراد صلى الله عليه: أن تتبعني، فأدخل (لا) صلة في الكلام، ومثل هذا كثير، فيما نزَّل ذو الجلال والإكرام، من ذلك قوله سبحانه: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ?[آل عمران: 159]، وقوله:?فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ?[المائدة: 13]، يريد سبحانه وعُظَم عن كل شأن شأنه: فبرحمة من الله لنت لهم، وأراد: فبنقضهم ميثاقهم، فأتى فيهما بـ(ما) صله بغير سبب ولا معنى، وكذلك وفي مثل ذلك ما يقول الشاعر:
وسالمتم والخيل تدمى شكيمها
بيوم جدود ما فضحتم أباكم
فقال: ما فضحتم أباكم؛ وإنما أراد: فضحتم أباكم، فأتى بـ(ما) صلة لغير معنى.(1/154)


وقال الله ذو الجبروت والإنعام، يحكي عن نبيه عيسى عليه السلام في قوله: ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ?[المائدة: 116]، يعني صلى الله عليه تعلم غيب أمري وعلانيتي وسري، ولا أعلم ما غاب من فعلك ولا أطلع إلا على ما اطلعتني عليه من وحيك، فهذا معنى ما عنه سألت، لا ما إليه من فاحش القول ذهبت في الله رب الأرباب، ومسبب ما يشاء من الأسباب. بل كيف يزعم المشبهون، ويقول على الله المبطلون، إن الله جسم وصورة، وأن فيما ذكروا من الصورة له نفساً تجول فيه من مكان إلى مكان!! وقد يسمعون ويرون ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل على نبيئه من الوحي الكريم، حين يقول جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ?[الأنبياء: 35] فماذا يقولون لو كانت نفساً كما يزعمون تعالى عن ذلك الرحمن، وتقدس ذو العرش والبرهان، أتموت وتفوت، أم لا تموت ولا تفوت؛ فإن قالوا تموت كفروا، ومن الإسلام خرجوا، وعند أنفسهم فضلاً عن غيرهم من أضدادهم ومناظريهم افتضحوا، وإن قالوا: لا تموت ولاتفوت، قيل لهم: من أين قلتم ذلك، وكان عندكم كذلك، وقد تسمعون ما حتم به الرحمن، على كل نفس في القرآن، ولم يستثن في ذلك نفساً له ولا لغيره، كما استثنى في غير ذلك من قوله: ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ?[القصص: 88]، وقوله: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ?[الرحمن: 26] واستثنى عند هلاك الأشياء، أنه الباقي الوارث لكل الأحياء، واستثنى عند الزوال والفناء وجهه ذو الجلال والبقاء - والوجه من الرحمن، فليس غيره تعالى ذو العزة والسلطان، ووجهه في اللغة والبيان فهو ذاته بأبين البيان، فذاته وجهه، ووجهه سبحانه ذاته، ليس بذي تحديد ولا أعضاء، وهو الله الواحد العلي الأعلى - ولم يستثن عند هلاك الأنفس وموتها نفساً لخالقها ومدبرها(1/155)


ومشيئها؛ أفأنتم في قولكم أعلم بالله منه بذاته، إذ قد نسبتموه إلى غير ما نسب إليه نفسه من صفاته؟! ولو كان كما تقولون، وإليه في قولكم تذهبون، إذا لاستثنى نفسه من الأنفس التي تموت وتفنى، كما استثنى بقاه من الأشياء التي تزول وتبلى، تعال الله عن ذلك الرحمن الرحيم، وتقدس الواحد الكريم. فمن أين قلتم إنها له نفس في صورة تبقى، دون الأنفس التي حتم عليها بالفناء؟ أوجدونا بذلك حجة وتبياناً واشرعوا لنا فيه قولاً وبرهاناً، في الكتاب والتنزيل، والسنة والتأويل، فلا تجدون ولله الحمد حجة ولا قولاً، ولا تستطيعون إلى إثبات باطل سبيلاً، وكيف يكون ذلك، أو تقدرون على شيء من ذلك، والله ذو الطول فيما نزل من الفرقان يقول: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ?[الأنبياء: 18] فإن انصفوا كانوا من قولهم خارجين، وإلى قول المحقين راجعين، وإن كابروا وجحدوا وتمردوا وعتوا، كانوا عند جميع الخلق مفتضحين، وبضد الحق متعلقين، والحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.(1/156)


باب تفسير قول الله سبحانه:?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ?الرحمن: 26 والرد على من قال أن لله وجهاً وأنه صورة
يقال لأهل الجهالة والضلال، فيما يقولون به في الله ذي الجلال، ويصفونه به من الكذب والمحال، وينسبون إليه من فاسد المقال، ماذا تقولون في قول الله ربكم وما تعتقدون - إذ أنتم في قولكم تزعمون أن لربكم وجهاً كالوجوه التي تعقلون، وأنه ذو أبعاض فيما تصفون - (إذ يقول): ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?[القصص: 88].
أفتقولون: إنما سوى وجهه من سائر أعضائه التي تذكرون يبقى معه أم يفنى دونه؟
فإن قالوا: تبقى معه.
قيل: وكيف يكون ذلك كذلك؟ ولم يذكر البقاء لشيءً من ذلك، فلقد قلتم بخلاف قول العلي الأعلى، إذ لم يحكم لغير الوجه بالبقاء، وأنتم تقولون إنه يبقى مع الوجه غيره من الأعضاء، فلقد بقي مع الوجه إذا شيء وأشياء!!
وإن قالوا: لا يبقى مع الوجه غيره من الأعضاء.(1/157)

31 / 172
ع
En
A+
A-