باب تفسير معنى: إن الله بكل مكان
إن سأل سائل مسترشد أو متعنت، فقال: ما معنى قولكم إن الله بكل مكان؟ تبارك ذو المن والإحسان.
قلنا له: معنى قولنا ذلك في ربنا، إنما نريد أنه هو الشاهد لنا غير الغايب عنَّا، لا يغيب عن الأشياء، ولا يغيب عنه شيء قرب أو نأى، وهو الله الواحد الجليل الأعلى، لأن من غاب عن الأشياء كان في عزلة منها، والعزلة فموجده للحد والتحديد، ومن غابت عنه المعلومات، كان من أمرها في أجهل الجهالات، وكانت عنه عازبة غايبة، والله سبحانه فلا تخفى عليه خافية، سراً كانت ولا علانية، فعلى ذلك يخرج قولنا إن الله بكل مكان، نريد أنه العالم الشاهد لكل شأن.(1/148)
باب تفسير معنى: أين الله؟
إن سأل سائل: فقال أين الله؟ قيل له: مسئلتك تحتمل وجهين، وتنصرف في اللغة على معنيين، أحدهما: أن تكون تريد أين الله حال، وهذا فباطل فاسد من المقال، متعال عنه ذو القوة والعزة والجلال، لأن ذلك يوجب التحديد، ومتى وقع التحديد وقعَ التَّبعيض، ومتى وقع التَّبعيض وقع التشبيه، فإذا وقع التشبيه، زالت الربوبيَّة بلا شك عن ذلك الشيء المبعض المحدد المجزا؛ لأن الخالق على خلاف المخلوقين، ومن وصف بصفة المربوبين فقد أزيل عنه أن يكون جاعلاً، وصحَّ أنه من المخلوقين، وبطلت وبعدت منه الوحدانية، وزالت من صفاته بغير ما لبس الأزلية، والله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله، فهو الواحد الأزلي، والخالق المحدث الباري، الذي ليس له ضد ولا شبيه ولا مثل ولا عديل، وهو الله الواحد الفرد الصمد الجليل.
وإن كنت تريد بقولك أين الرحمن؟ تقول: أين هو مدبر فاعل لكل شأن؟ فهو كما ذكر عن نفسه بكل مكان مدبر فاعل، يفعل في كل يوم ما يريد، يميت ويحيي، ويخلق ويرزق، وهو الواحد الحميد، العالم لا يخفى عليه مختف، بل علمه به كعلمه بالظاهر المتجلي، فهو سبحانه كذلك، وهذا جوابنا، وقولنا لمن سأل عن ذلك، لا ما يذهب إليه المشبهون لربهم، المتكمهون في بحور ضلالهم، والعابدون لغير إلههم، إذ هم يعبدون الذي هم يذكرون، ويصفون وينعتون، ويحددون ويبعضون، والله الخالق الباري، فخلاف ما يصفون، فلذلك قلنا إنهم غيره يعبدون، فالجاهلون يعبدون صورة وجسماً، والله فهو المجسِّم المصوِّر لكل جسم، ومصوَّر المصوِّر فخلاف المصوِّر، لأن المصوِّر فاعل، والمصوَّر مفعول به، والفاعل فليس بالمفعول، لأن الفاعل قبل مفعوله، فقد بان أن المشبهين يعبدون غير رب العالمين، فقد كفروا بالخالق، وعبدوا المخلوق، فبعداً لأصحاب السعير، والحمد لله الواحد القدير.(1/149)
باب تفسير معنى القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر
القدوس فهو: المستحق من خلقه للتقديس، والتقديس فهو التنزيه والتعظيم، وكذلك ربنا الواحد الكريم.
والسَّلام فهو: السالم من الآفات التي تحل بغيره، النازلات بالخلائق الحالة بهم، الهاجمة عليهم.
والمؤمن فهو: المُؤَمِّن لأوليائه من أليم عذابه، الصارف عنهم ما يوقع بأعدائه من عقابه.
والمهيمن فهو: المتقدس الحاكم، الشاهد على خلقه بحكمه العادل.
والعزيز فهو: الغالب الجليل، الممتنع المتعالي عن التشبيه والتمثيل، المتعزز فلا يرام، العظيم الجليل فلا يضام، المعز لأوليائه، المذل لأعدائه.(1/150)
والجبار فهو: المالك القاهر، الذي ما جبر من الأشياء كلها انجبر، فكان على ما جبره وصوره من الأجسام، فتبارك الله ذو الجلال والإنعام، الذي جبَل الأشياء وجبرها على ما شاء من تصوير خلقها، وتركيب أجسامها وأبعاضها، وتقدير ألوانها وأماكنها، وتغيير طعم مأكولها، واختلافها، فجبر السماوات على ما أراد من الارتفاع، وجبر وجبل الأرضين على ما أراد من الاندحاء والاتضاع، وجبر ما بينهما على ما يشاء من التصوير، والخلق والتقدير، والتركيب، وجبل وجبر العباد على ما شاء من تصويرهم، وخلق ما خلق من تقديرهم، فجعلهم من ضعف، ثم جعل من بعد الضعف قوة، ثم جعل من بعد القوة ضعفاً وشيبة، كما قال الله سبحانه: ?اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ?[الروم: 54]، وكذلك جبلهم على ما شاء من خلق أجسامهم، فجعل منهم الطويل والقصير، وجعل منهم النبيل في جسمه والحقير، وكلهم يريد الأفضل من الأمور، فكانوا كما شاء أن يجعلهم، وجعل فعله فيهم وفي غيرهم آية لهم كما قال سبحانه: ?وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ?[الروم: 22]، فكان تركيب خلقهم، كما أراد من تصويرهم، لا اختلاف في ذلك ولا تفاوت، كما قال سبحانه: ?مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ?[الملك: 3]، فالحمد لله الذي جبل العباد وجبرهم على ما يشاء من تركيب خلقهم، محبوبهم من ذلك وغير محبوبهم، ولم يجبرهم على شيء من أفعالهم صغيرها ولا كبيرها، دقيقها ولا جليلها، بل أمرهم ونهاهم، وبصرهم غيّهم وهداهم، ثم بعث(1/151)
إليهم النبيين فأمروهم بطاعة رب العالمين، وحذروهم أن يكونوا له من العاصين، وخلق للمطيعين ثواباً وللعاصين نكالاً وعقاباً، ثم لم يحل بين أحد وبين طاعته، ولم يجبر أحداً على معصيته، بل أمر عباده تخييراً، ونهاهم سبحانه تحذيراً، ثم قال ذو المن والعزة والجلال، من بعد إكمال الحجة عليهم في كل حال: ?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إنا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وإن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا?[الكهف: 29]، وقال تعالى:?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?[الزلزلة: 7-8]، فتبارك المتقدس عن خلق أفعالهم، المتعالي عن جبرهم على شيء من أعمالهم، العدل في كل أفعاله، الصادق في كل مقاله، البري من شبه المجعولات، المتعالي عن درك الغفلة والسنات.
والمتكبر فهو: العظيم الخبير، الذي لا يشبهه في القدرة والعظمة كبير.(1/152)