وقد علم كل ذي علم وفهم، وفَهِمَ كل ذي فهْم، ما جرى لأهل بيت النبوة في هذه الأمة، وما فعله الطغاة مع العترة المطهرة، وما ساعدهم به علماء السوء، وفقهاء الضلال؛ من اتباع أهوائهم على كل حال، ورفض أهل بيت نبيهم، وطرح ما يدينون به من دين ربهم، حتى غيروا معالم دين الله، وافتروا على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لترويج ما يهوونه من الصد عن سبيل الله في الأفعال والأقوال، كل ذلك معارضة للآل، ومخالفة لما أمرهم به في شأنهم ذو الجلال.
وقد قصدوا استئصال السلالة النبوية، وإبادة الذرية العلوية، وإزالتهم عن وجه البسيطة بالكلية، وأبلغوا مجهودهم في طمِّ منارهم، وطمْس أنوارهم، فأبى الله تعالى لهم ذلك، وغلبهم على ما هنالك، كيف وهم قرناء الكتاب، والحجة على ذوي الألباب، والسفينة المنجية من العذاب، والثقل الأصغر الذين خلّفهم الرسول مع الثقل الأكبر في الأرض، ولن يفترقا إلى يوم العرض ?يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ?[التوبة: 32].
وتهافت في أثرهم الأتباع من العوام، والهمج الرعاع من الطغام، أتباع كل ناعق، وسيقة كل سائق، وركضوا في ميادين الدول، كما وصفهم الله عز وجل?إن هُمْ إلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ?[الفرقان:44]، وهم الجم الغفير، والجمع الكثير?وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[الأنعام:116] ?وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ?[يوسف: 103]، فعظمت الفتنة، واشتدت المحنة، وتمت الفرقة المنهي عنها في الكتاب المبين، وعلى لسان الرسول الأمين.(1/12)


هذا واعلم أن الله جل جلاله قال:?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ?[يونس:32]، وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((افترقت أمة أخي موسى إلى إحدي وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية، والباقون في النار، وافترقت أمة أخي عيسى إلى اثنتين وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية والباقون في النار، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية والباقون في النار))، وهذا الخبر متلقى بالقبول، فكلام من شكك فيه غير مقبول، وقال وصيه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: ((ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه))، وغير ذلك مما هو معلوم بين الأمة، ثم إنه معلوم بضروريات المعقول عدم صدق المتناقضات وما إليه تؤول، وقد قال جل ذكره:?فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ?[الزمر:32]، فكيف تكون هذه الفرق كلها ناجية على اختلاف أهوائها وتباين آرائها؟ ?وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ?[المؤمنون:71].(1/13)


وقد أوضح لهم الدليل، وأنهج لهم السبيل، بما ركب فيهم من العقول، وأتاهم به الرسول، فلم يكن خلاف من خالف، وشقاق من شاقق، فيما هذا حاله، إلا إخلالاً بما كلفه الله تعالى من معرفته، أوعناداً لما احتج به عليه من حجته، ألم ينههم عن التفرق في الدين، والاكتفاء بالظن فيما لا بد فيه من اليقين؟ قال جل ذكره: ?وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153]، وقال عز وجل:?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبراهيم وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13]، وغير ذلك مما احتج به على الخلق، وأرشدهم به إلى الحق.(1/14)


وقد طرحت هذه الفرق حجة الله الكبرى عليها، وهي العقول التي ميّز الله تعالى بينها وبين البهائم بها، فألهمها فجورها وتقواها، فمنهم من شبّه الله بخلقه، ومنهم من أثبت قدماء مع الله، ولو شابهها لشاركها فيما لأجله قضت العقول بحدوثها، واستدلت به على موجدها، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد قال تعالى نفياً للمثل بطريقة الكناية أو مجاز الزيادة في الذكر المنير: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، وقال تعالى فيما أفاد عموم السلب من الأخبار: ?لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الأنعام:103]، وقال تعالى: ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4]، فانحط صاحب هذه المقالة عن دائرة التوحيد، وتفكر في خالقه وهو لا يعرف ماهية نفسه، وتركيب حقائقه، التي هي مخلوقة موضوعة؛ مقدرة مصنوعة، وكيف يطمح بجهله إلى التفكر في رب العالمين، المتعالي بجلال العزة والعظمة عن المخلوقين، ?قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إذا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنْظُرْ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا?[عبس:17-26]، سبحان الله الملك الحق المبين، ما أوضح آياته، وأصرح بيناته، وأبلغ نعماءه، وأسبغ آلاءه.(1/15)


هذا وقد أرشدنا ذو العزة القاهرة، والعظمة الباهرة، إلى النظر في عجائب مصنوعاته، وغرائب مبتدعاته، التي حارت فيها العقول، مثل قوله عز وجل:?إن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[البقرة:164].(1/16)

3 / 172
ع
En
A+
A-