قلنا له: إن إرادة الله في فعله، هي خلاف إرادته في فعل غيره، وكلامنا فإنما هو في فعل الرحمن، لا فيمن خلق وذرأ من الإنسان، فإرادته فيما خلق، هو إيجاده له على ما تقدم في أول كلامنا من القول فيه، وإرادته في أفعال عباده فإنما هي إرادة نهي وأمر، لا إرادة حتم وجبر، أراد منهم الطاعة غير مكره لهم عليها، كما أراد أن لا يكون منهم المعصية غير حائل بينهم وبينها، بل بالطوع منهم أراد كونها، لا بالإكراه لهم والقسر عليها والإجبار، فأمرهم ونهاهم، وبصرهم وهداهم، ومكنهم من العملين، وهداهم في ذلك النجدين، ثم قال سبحانه:?مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[القصص: 84] ثم قال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله:?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إنا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا?[الكهف: 29] فكانت إرادته في أفعالهم الأمر لهم بالمرضي من أعمالهم، فنفذت إرادته في الأمر لهم كما أراد، ولو أراد أن يجبرهم لَجَبرهم، ولوجبرهم على صنعهم وفعالهم لكان العامل لما يعملونه دونهم من أعمالهم، ولو كان العامل لما يعملونه دونهم لكان الآمر لنفسه دونهم بما فعلوه، ولكان هو المشرك بنفسه لا هم، ولكان العابد لأصنامهم دونهم، لو كان على ما يقولون، إذ هو الصانع لكل ما صنعوا،والممضي دونهم لكل ما أمضوا، ولكانوا هم من كل مذموم أبرياء، وفي حكم الحق مطيعين أتقياء، وعند الله للثواب مستاهلين سعداء، إذ هم فيما صرفهم ربهم متصرفون، وفي قضائه ومشيته ماضون، فتعالى الله الرحمن الرحيم، عمَّا يقول فيه حزب الشيطان الرجيم.(1/143)
إرادة الله لإخباره
فإن قال قائل: قد فهمنا ما احتججتم به في الفرق بين إرادة الله في فعله وإرادة الله فيما سوى ذلك من فعل غيره، فما عندكم فيما قصه الله وذكره وأخبر به من أخبار الآخرة، وقيام الساعة، فهل أراد تبارك وتعالى أن تقوم القيامة، ويكون الثواب، ويقع بأهله العقاب؟ فقد نجده قد أخبرنا بذلك كله، فهل أراده كما أراد الإخبار به؟
فقولنا: إن شاء الله لمن سأل عن ذلك، إن الله تبارك وتعالى أراد أن يخبر بما أخبر به ويذكر ما ذكر، فكان ما أراد، وكانت إرادته في ذلك هي المراد، من الإخبار نفسه، فأمَّا أن يكون أراد أن تقوم القيامة ويقع الجزاء عند ما أخبر به من خبرهما فلم يرد ذلك، ولو كان مراده فيه كذلك، لكان أول الخلق قد واقع وعاين القيامة والجزاء، وكان قد انقطع النسل والنماء، وحل بالأولين دون الآخرين ما يتقى، ولكنه سبحانه أخبر عما سيكون من فعله، وهو سبحانه بغير شك يريد أن يقيمها في وقت ما شاء، والوقت فهو في علمه معلوم مسمى، فإذا أراد إقامتها قامت، وإذا شاء أن يجليها تجلت، ولم يشاء سبحانه أن يجليها، إلا في وقتها الذي إليه أجلها كما قال سبحانه: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إلا بَغْتَةً?[الأعراف: 187] إلى آخر الآية، فهو سبحانه يريد أن يقيمها لوقتها، ولم يرد أن يقيمها في دون ما جعل من مدتها، وبين يريد وأراد في اللغة واللسان، فرق عند جميع أهل اللغة العربية والبيان، لأن معنى يريد، فهو سيفعل لا أنه قد فعل، ومعنى أراد، فهو أمضى وفعل لا سيفعل، وبين الفعل المستقبل والفعل الماضي فرق في جميع المعاني من القول والإعراب، وغير ذلك من غوامض الأسباب، يعرفه ويعلمه ويقف عليه ذووا الألباب، وليس من قيل له إنه يريد أن يفعل كذا وكذا في الحكم، كمن قيل له إنه قد(1/144)
فعل ما به أقدم وعليه اجترى، والحكم عليه من الله ومن رسوله ومن الأئمة الهادين بالقطع والصلب، والقتل والضرب، والحبس والتنكيل، فلا يقع على من يريد عمل ما جعل فيه ذلك ولم يفعله، وإنما يقع ذلك ويجب على من دخل فيه واكتسبه وفعله، وفي أقل من ذلك نور وبرهان، وفرق بين أراد ويريد وفصل وتبيان، عند كل ذي علم وحجى، وبصيرة ويقين واهتدى.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على محمد النبي المصطفى، وعلى من طاب من عترته وزكى.(1/145)
باب تفسير معنى الأعلى
الأعلى هو: العظيم المستعلي على الأشياء بقدرته، القاهر الذي لا يرام لعزته وعظمته، الواحد البائن عن مشابهة شيء من خلقه، وكذلك معنى: (تعالى علواً كبيراً) لا يتوهم الجاهلون أنه مستعل فوق شيء عالٍ، يحيط به ذلك الشيء ويحويه ويحدق به، تعالى عن ذلك وحاشاه، وكيف يكون كذلك، أو يجوز فيه القول بذلك، وهو بكل مكان كما قال سبحانه في واضح الفرقان:?مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[المجادلة: 7]، ولو كان كما يقول الضالون، ويصفه به المشبهون، لبطل ما قال في القرآن من أنه جل وعز بكل مكان.(1/146)
باب تفسير معنى الكبير ومخرج ذلك في اللطيف الخبير
معنى الكبير فهو: الباين عن مشابهة المخلوقات، القديم الأزلي الذي لا تنقصه الساعات، الأوّل الذي لا تراه العيون ولاتعروه السنات، ولا تستتر منه غوامض أسرار القلوب المحجوبات، ولا تحيط به الأقطار ولا تشتبه عليه اللغات، الذي هو من تخوم الأرضين كهو من أعالي السماوات، وكذلك القول في معنى قوله (الجليل)، فتبارك من لا إله غيره ولا شيء يشبهه، المصور لكل صورة من خلقه، المقدر الذي لا يكون فعلٌ كفعله.(1/147)