رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا?[الفتح: 29].
فأي عزة أعز من عزة أولياء الرحمن وحزبه، وأعداء الشيطان وحزبه، الذين جعلهم الله حكام أرضه، وأطلق أيديهم في إنفاذ حكمه، وأوجب طاعتهم على جميع خلقه، فأمرهم بمجاهدة الكافرين وضمن لهم النصر على من خالفهم من الفاسقين، أولاد النبي، ونسل الوصي، ومعدن العلم والرحمة، والبر والفضل والحكمة، ومختلف الملائكة المقربين، ومهبط وحي ربّ العالمين، الذين من الرجس طهّروا، وبولادة الرسول كّرموا، وبذلك في التنزيل ذكروا، وذلك قول الرحمن الرحيم فيما نزل من النور الكريم: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب: 33] ولكثير ما جاء من تفضيل الله عز وجل لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما نزل في واضح التنزيل، والقول مما يطول لو شرحنا به الكتاب، ويعظم ويجل القول والخطاب، والحمد لله على ما خصنا به من الفضل المبين، وجنبنا سبحانه عن الحظ الغبين.(1/133)
باب معنى الإرادة من الله
إن سأل سائل: فقال أخبرونا عن إرادة الله ذي الجلال، أتقولون إنها قديمة أزلية كالعلم والقدرة أوَّلية؟
قيل له: إن العلم والقدرة خلاف ما سألت عنه من الإرادة، لأن العلم والقدرة من صفات الذات، والإرادة حادثة بإحداث المحدثات، والإرادة، فمخلوقة محدثه كسائر المحدثين، والعلم والقدرة فأزليان غير مخلوقين، والدليل على ما قلنا به وفيه من ذلك والشاهد لنا على أنه في الله سبحانه كذلك أن العلم والقدرة لو كانا شيئين محدثين لكان يلحق بالله جل جلاله العجز والجهل في الحالين، لأنه إن جاز أن يكون فينة غير عالم فقد كان بلا شك جاهلاً، وإن جاز أن يكون فينةً من الدهر غير قادر فقد كان بلا مرية في العجز داخلاً، فقد ثبت بحمدالله أنه لم يزل قادراً عالماً، ومن الآفات والصفات الزائلات الناقصات سالماً، وإذا قد صح أنه لم يزل عالماً قادراً في كل الحالات والأوقات، فقد صح أن العلم والقدرة من صفات الذات.(1/134)
وأما الإرادة منه جل جلاله وتقدس عن أن يحويه قول أو يناله، فمحدثة مكونة موجودة وعن صفات ذاته زائغة باينة، تحدث بإحداث فعله، إذ ليس هي غير خلقه وصنعه؛ لأن إرادته للشيء خلقه له، وخلقه له فهو إيجاده إياه، وإيجاده إياه فهو إرادته له، فإذا خلق فقد أراد وشاء، وإذا أراد فقد خلق وبرا، لا فرق بين إرادته في خلق الأجسام ومراده؛ لأن إرادته لإيجاد الاجسام هو خلقه لما فطر من الصور التوام، لا تتقدم له إرادة فعلاً، ولا يتقدم له أبداً فعل إرادة، ولا تفترق إرادته وصنعه، بل صنعه مراده، ومراده إيجاده. وإنما يتقدم الإرادة فعل المفعول إذا كان الفعل مخالفاً للمفعول المجعول، وكان الفعل متوسطاً بين الفاعل ومفعوله، فحينئذ تتقدم إرادة المريد أفاعيله ومعموله، وذلك فلا يكون إلا في المخلوقين، ولن يوجد ذلك أبداً في رب العالمين؛ لأن كل مفعول للمربوبين فإنما قام وتجسم واستوى من بعد العدم وتم بالفعل المتقدم له من الحركات، بالرفع والوضع في الحالات، من ذلك ما يعلم ويرى من عمل الصانع البناء وإحكامه لما يحكم من البناء، فالفاعل للبناء قبل الفعل، والفعل قبل المفعول؛ لأن فعل البناء هو الحركات، والتحيل بالرفع والتسوية، والتقدير والوضع لحجر فوق حجر، ومدر بعد مدر حتى يتم له بفعله مفعوله، ويلتأم له ببعض حركاته معموله، ولولا ما كان منه من فعله لما تم له ما تم من مفعوله، فبفعل الفاعل كان المفعول، وبتحيله قام وتمَّ له المجعول. فالفاعل من الآدميين جسم وأدوات، وفعله فعرض بِّيِّن بالحركات، ومفعوله فبعدَ عرض الفعلِ يوجد في الحالات، فكل جدار وجد أو دارٍ أو عقدة معقودة، أو ثوب مخيط بخيوط أو رسم بكتاب مكتوب، أو غير ذلك من الأمور والأسباب، التي هي من أفعال العباد، فلم تكن إلا من بعد الحركات، اللواتي هن أعراض غير متلاحقات، ولذلك جاز فيها تقدم الإرادات والنيات. وكلما أوجده الرحمن فهو فعل لذي الجلال والسلطان، ولا يقال إنه له مفعول(1/135)
إلا على مجاز الكلام المعقول لما بينا وشرحنا في أول الكلام، وقلنا من أن المفعول لا يكون إلا وقد تقدم قبله الفعل من الفاعل، فلا يكون فعل بين فاعل ومفعول إلا وهو حركات بأدوات وتحيل وتفكر وآلات، فتعالى عن ذلك ذو المن والجلال والسلطان، وتقدس عن التحيل والحركات الواحد الرحمن، الذي كل خلقه له فعل، الذي إذا أراد أن يكون شيئاً كان بلا كلفة ولا عون أعوان، أمره نافذ كائن، ومراده لمراد غيره فمفارق مباين.
ومن الحجة على من زعم أن إرادة الله متقدمة لفعله أن يقال له: ألست تزعم أن إرادته متقدمة لأفعاله؟ فإذا قال: كذلك أقول. قيل له: ألست تعلم في صحيح العقول أن ذلك إن كان كذلك أنهما شيئان اثنان، الإرادة شيء، والفعل شيء؟ فلا يجد بداً من أن يقول أجل. فيقال له: فأي الإثنين تقدم صاحبه فكان وحدث قبله؟ فإن قال: الإرادة حدثت قبل الفعل. فسواء كان بينهما قليل أم كثير، فقد أوجب وأدخل بذلك على ربه النية والضمير، والانطواء على ما لايجوز في اللطيف الخبير، ومتى قال بذلك قايل فقد شبه ربه بالمخلوق الزائل ذي الجوانح المضمرات، والأدوات المتصرفات، والأراء المتناقلات، وهذا فإبطال التوحيد، ونفس الكذب على الواحد الحميد، ونقض ما نزل في الكتاب المجيد. فإن هو قال: بل الفعل سبق الإرادة. وقد علمنا أن الفعل هو المخلوق فقد قال: إن الخالق للمخلوقين غير الله رب العالمين؛ لأن الله سبحانه وجل عن كل شأن شأنه لا يخلق إلا ما يشاء، ولا يشاء إلا ما يريد من الأشياء، وكذلك قال الرحمن فيما نزل من الفرقان:?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ?[القصص: 68] وقال سبحانه:?إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?[الحج: 14]، وقال سبحانه:?وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء?[الحج: 18]، ففي كل ذلك يخبر أنه لن يفعل إلا ما يشاء ولن يشاء إلا ما يريد من الأشياء، وكذلك الله(1/136)
تبارك وتعالى. أوَلا ترى أن الفاعل لِما لا يريد فجاهل مذموم من العبيد، فكيف يقال بذلك في الله الواحد الحميد؟!
ومن الحجة على من قال: إن الإرادة من الله سابقة للمراد، وإنها في الله ذي العزة والإياد كالعلم والقدرة، وإنه لم يزل مريداً كما لم يزل قادراً عالماً أن يقال له: هل كان الله في الأبد والقدم خالقاً لما أراد أن يخلق، إذ لم يزل في قولك مريداً للخلق كما أنه لم يزل عالماً بما يكون، قادراً على فعل ما يشاء إذا أراد فعله وشاءه؟ فإن قال: نعم؛ فقد أثبت الخلق مع الخالق في القدم، فتعالى عن ذلك ذو الجلال والكرم، إذ قد جعل معناه ومعنى غيره من العلم والقدرة سواء، ومتى كانا سواء فلم يفترقا في سبب ولا معنى، فكل ما نزل بأحد هذه الثلاثة الأشياء من العلم، والقدرة، والإرادة فهو نازل بصاحبيه، وحال بمشاكليه، ومحيط بمناظريه، ولا يخلو من جعل المشيئة والإرادة كالعلم والقدرة من أن يحمل العلم والقدرة على معنى المشية والإراده، أو أن يحمل معنى المشية والإرادة على معنى العلم والقدرة، فإن حمل العلم والقدرة على معنى الإرادة والمشية والخلق جعلهما مخلوقين محدثين بأحق الحق، وإن حمل معنى الإرادة والمشية والخلق على معنى العلم والقدرة جعل الإرادة والمشية والخلق شيئاً قديماً أزلياً، وفي أزلية الإرادة أزلية الخلق، وفي ذلك إبطال التوحيد، والشرك بالله الواحد الحميد. فقد بطل قول من قال بأحد هذين المعنيين لما بان لأهلهما فيهما من الفساد في كلتا الحالتين، وثبت ما قلنا به من أنه لا فرق بين إرادة الله ومراده، وأن الإرادة منه هي المراد وأن مراده هو الموجود المدبَّر الكائن المخلوق المجعول، إذا أراده فقد كونه، وإذا كونه فقد أراده، لاتسبق له حالة حالة في الفعل منه سبحانه والإرادة، فسبحان علام الغيوب، ومقلِّب القلوب، ونسأل الله الواحد الحميد أن ينفعنا بما علمنا، وأن يمن علينا بإيزاع الشكر فيما امتن به علينا.(1/137)