وقال: ?لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ?[آل عمران:154]، يقول: علم. فالكتاب هاهنا كتاب علم؛ لأن الله تبارك وتعالى قد علم أنه سيختارون البراز إلى مضاجعهم، فإذا برزوا اختياراً من أنفسهم للبراز قَتلوا وقُتلوا، فالبراز فعل من البارز، والقتل فعل من القاتل المعتدي، وليس العلم الذي جبرهما على البراز والقتل، والبراز والقتل فعل من البارز والقاتل، وعلم الله محيط بهما كما قال عز وجل: ?وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ?[محمد:19]، التقلب من الخلق، وعلم الخالق محيط بهم، ولا يقدر أحد أن يخرج من علم الله، وليس علم الله الذي يدخلهم في الطاعة ويخرجهم من المعصية، ولكن (قوماً) اختاروا الطاعة على المعصية فاستوجبوا من الله الرضى والرضوان؛ لأنهم سعوا في إرادة الله ومشيئته، واختار قوم المعصية على الطاعة، فاستوجبوا من الله السخط والعقوبة؛ لأنهم سعوا في سخط الله وكرهوا رضوانه، ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ?[محمد:28]، واتبعوا أهواءهم، وأرضوا الشيطان بفعلهم، فصاروا في حزبه: ?أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إن حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ?[المجادلة:19]؛ لأن الله لا يُقدِّر أبداً ما يكره، ولا يُقدِّر إلا ما يرضى، وليست مشيئته تقع إلا على رضاه، ولا يكره إلا ما يسخطه، فاعلم ذلك، ?فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ?، كما قال عز وجل: ?يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلا بِإذنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ?[هود:105]، في ذلك اليوم بعمله القبيح الذي قدمه في دار دنياه، ومنهم سعيد بعمله الصالح الذي قدمه في هذه الدنيا، ولذلك قال عز وجل: ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ?[الأعراف:179]، يقول: إنه يعيدهم ويخلقهم يوم القيامة خلقاً ثانياً، من خرج من الدنيا عاصياً لجهنم،(1/108)


وإن كان لفظ (ذرأنا) لفظ ماض فمعناه مستقبل، كما قال: ?وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ?[الأعراف:44]، ?وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَاف?، يقول: إنهم سينادون، لا أنه عز وجل خلقهم للنار في هذه الدنيا، وهو سبحانه يقول: خلاف ذلك في كتابه، قال: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات:56]، لم يخلق جميع خلقه إلا لعبادته، ولذلك ركب فيهم العقول وأرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتب؛ ?لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى?[النجم:31]، وقال: ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ?[يونس:26]، في الكرامة.
والوجه الثاني من كتاب الله: قوله سبحانه: ?وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا?، يقول: فرضنا عليهم: ?أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ?[المائدة:45]، إلى آخر الآية.
والوجه الثالث: قوله عز وجل: ?إنا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ?[الزمر:2]، يعني القرآن.(1/109)


والوجه الرابع: قوله: ?كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ?[الأنعام:12]، يقول: أوجب على نفسه الرحمة، أنهم إذا تابوا رحمهم، وأوجب لهم على نفسه الرحمة، فالكاتب والمكتوب عليه في هذا الموضع واحد، وهو الله رب العالمين، وكذلك قوله: ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ?[المائدة:116]، يقول عيسى عليه السلام: تعلم ما غاب عني من أمري، ?وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ?؛ يقول: لا أعلم ما غاب عني من أمرك، وكذلك قوله:?فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?، وقوله: ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ?[القصص:88]، وقوله: ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14]، وقوله: ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، ?وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ?[الزمر:67]، فكل هذه الآيات وما أشبهها من الآيات فإنما يريد عز وجل ذاته، لا أن ثم نفساً ووجهاً ويداً وعيناً ويميناً سواه، فاعلم ذلك، وتفكر في جميعه يبن لك الصواب، وينفى عنك الشك والارتياب بحول الله وقوته.
تم الكتاب والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وآله وسلامه(1/110)


كتاب الدَّيانة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(1/111)


التوحيد
إنا ندين بأن الله واحد أحد، ليس له شبه، ولا نظير، ولا مثل، ولا عدل، ولا كفؤ في وجه من الوجوه، ولا معنى من المعاني، وأنه ليس بذي صورة، ولا حد، ولا غاية، ولا نهاية، ولا بذي أجزاء ولا أعضاء، ولا بعضه غير بعض، ولا يقع عليه الطول والعرض، ولا يوصف بالهبوط، ولا الصعود، والتحرك، والسكون، والزوال، (والعجز، والهرم، والجهل)، والانتقال، والتغير من حال إلى حال. ولا يحويه مكان، ولا يمر عليه وقت ولا زمان، وأنه قبل كل مكان، وحين وأوان، ووقت وزمان، وأنه خلق المكان من غير حاجة إليه، وإنما خلقه لحاجة الخلق إليه، وأنه في السماء إلهٌ، وفي الأرض إلهٌ، وفي كل مكان إلهٌ خالق، مدبر من غير أن يحويه شيء، ولا يحيط به، ومن غير أن يكون حملة العرش يحملونه، تعالى الله عن ذلك، وأنهم يحملون العرش، وأما الله سبحانه وبحمده فإنه أعز وأجل من أن يحمله أحد من الخلق، والخلق أعجز وأضعف من أن ينالوا ذلك منه، أو يقدروا عليه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن غير أن يكون كما يستوي الإنسان على سريره، ولكن استوى على العرش، والعرش فهو الملك، واستواؤه ملكه وقهره، بلا ند يشاوره، ولا ضد ينافره، ولا معين يوازره، وهو كما قال الملك في كتابه، بلا كيف ولا تمثيل ولا تحديد. وأنه شيء لا كالأشياء، ولا شيء يعدله سبحانه وبحمده. وأنه ليس بجسم ولا جسد، ولا فيه صفة من صفات الأجساد، ونعتها وهيئتها، من تأليفها واتصالها، واجتماعها، وافتراقها، وكينونة بعضها على بعض، على المجامعة، والمفارقة، والمباشرة، والدخول، والخروج، والقرب في المسافة، والبعد في العزلة والغيبة وطول السفر. وأنه لا يحتجب بشيء من خلقه، ولا يستتر به، ولا يبدو له فيدركه. وأن الفِكَرَ لا تبلغه، وأن العقول لا تقدره، والأوهام لا تناله، والضمائر لا تمثله، والأبصار لا تدركه، وأن العيون لا تراه في الدنيا ولا في الآخرة، وأن من زعم أن الأبصار تدركه وأن العيون تراه مجاهرة فقد(1/112)

22 / 172
ع
En
A+
A-