وفي الرقاب: رجل يكون له عبد فيكاتبه على أنه يدفع إليهشيئاً معروفاً يتراضيان عليه، العبد والمولى، فيجب على صاحب الزكاة أن يعين هذا العبد على فك رقبته، وذلك قول الله تبارك وتعالى: ?وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إن عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا?[النور:33]، ثم قال لأصحاب الزكاة: ?وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ?[النور:33]، فأمرهم أن يغيثوا المكاتبين من أموال الله التي آتاهم، فلا يجوز لأحد من المسلمين أن يدفع هذه الزكاة إلى هؤلاء المسمين من الفقير والمسكين وابن السبيل والغارم والمكاتب، إلا أن يكونوا عارفين بالله عز وجل وبحدوده، وأعدائه وأوليائه، فيوالون أولياءه، ويعادون أعداءه، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يتعدون حداً من حدوده؛ وجب لهم حينئذ الزكاة. وإذا لم يكونوا على هذه الصفة لم يجب لهم من الزكاة شيء وإن كانوا معدمين فقراء؛ لأن الله عز وجل جعل هذه الزكاة لعباده المسلمين وأوليائه الصالحين لأن يتسعوا فيما رزقهم الله، ويستغنوا بفضل الله الذي أفضل عليهم؛ ويثيب أهل الأموال فيما أخرجوا من زكوات أموالهم لأن يستعين كل بنعمة الله وفضله.(1/97)
حرمة الزكاة على الظالم
فإذا كان الفقير على غير الاستواء ثم دفع صاحب الزكاة إليه شيئاً من المال، فقد قواه على فسقه وفجوره وطغيانه، وكان له شريكاً في عصيانه، كدأب الذين يعينون الظالمين، ويقيمون دولتهم بزرعهم وتجارتهم، وينصرونهم على قتل المسلمين وهتك حريمهم وأخذ أموالهم، ولولا التجار والزارعون ما قامت للظالمين دولة، ولا ثبتت لهم راية، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: ?وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ?[هود:113]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله بعثني بالرحمة والملحمة، وجعل رزقي في ظلال رمحي، ولم يجعلني حراثاً ولا تاجراً، ألا إن شرار عباد الله الحراثون والتجار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق.))؛ لأن الحراثين يحرثون والظالمين يلعبون، ويحصدون وينامون ويجوعون ويشبعون، ويسعون في صلاحهم وهم يسعون في هلاك الرعية، فهم لهم خدم لا يؤجرون، وأعوان لا يشكرون، فراعنة جبارون، وأهل خنا فاسقون، إن استُرْحِموا لم يرحموا، وإن استنصفوا لم ينصفوا، لا يذكرون المعاد، ولا يصلحون البلاد، ولا يرحمون العباد، معتكفون على اللهو والطنابير، وضرب المعازف والمزامير، قد اتخذوا دين الله دغلاً، وعباده خولاً، وماله دولاً، بما يقويهم التجار والحراثون، ثم هم يقولون: إنهم مستضعفون، كأن لم يسمعوا قول الله تبارك الله وتعالى فيهم وفيمن اعتل بمثل علتهم؛ إذ يحكي عنهم قولهم: ?إن الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:97]، وقال سبحانه: ?وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً?[النساء:100]، يقول: من هاجر من دار الظالمين ولحق(1/98)
بدار الحق والمحقين، رزقه الله من الرزق الواسع ما يرغم أنف من ألجأه إلى الخروج من وطنه، وذلك ما يروى عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أنه كان يقول: ((يروى أن الله عز وجل يجعل أعوان الظالمين يوم القيامة في سرادق من نار، ويجعل لهم أظافير من حديد يحكون بها أبدانهم حتى تبدوا أفئدتهم فتحترق، فيقولون: يا ربنا ألم نكن نعبدك؟ قال: بلى، ولكنكم كنتم أعواناً للظالمين.))، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ملعون معلون من كثر سواد ظالم)).
وفي معاداة الظالمين ما يقول الله عز وجل: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبراهيم وَالَّذِينَ مَعَهُ إذ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4]، فباين إبراهيم والذين معه آباءهم وأبناءهم وإخوانهم الذين باينوا الله بالعداوة، وكذلك يجب على كل مؤمن أن يقتدي بفعلهم.(1/99)
المحكم والمتشابه
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
اعلم أن القرآن محكم ومتشابه، وتنزيل وتأويل، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وحلال وحرام، وأمثال وعبر وأخبار وقصص، وظاهر وباطن، وكل ما ذكرنا يُصدِّق بعضه بعضاً، فأوله كآخره، وظاهره كباطنه، ليس فيه تناقض، وذلك أنه كتاب عزيز، جاء من رب عزيز على يدي رسول كريم، وتصديق ذلك في كتاب الله حيث يقول: ?وانه لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت:42]، ويقول: ?بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ?[البروج:21]، ويقول: ?أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا?[النساء:82].
فإذا فهم الرجل ذلك أخذ بمحكم القرآن، وأقر بمتشابهه أنه من الله، كما قال الله سبحانه: ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ?[آل عمران:7]، ثم بين عز وجل لأي معنى تركوا المحكم وأخذوا بالمتشابه؛ قال: لابتغاء الفتنة والهلكة، فلذلك جعل المحكم إماماً للمتشابه، كما جعله حيث يقول: ?هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ?.(1/100)
فالمحكم كما قال الله: ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4]، و ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]، و?لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ?[الأنعام:103]، ونحو ذلك، والمتشابه مثل قوله: ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?[القيامة:22]، معناها بين عند أهل العلم، وذلك أن تفسيره عندهم. أن الوجوه يومئذ تكون نضرة مشرقة ناعمة، إلى ثواب ربها منتظرة، كما تقول: لا أنظر إلا إلى الله وإلى محمد، ومحمد غائب، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة، معناه: لا يبشرهم برحمته، ولا ينيلهم ما أنال أهل الجنة من الثواب، فعندما لا ينظر الله إليهم يوم القيامة يراهم.
ثم قال: ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ?، يقول: ثواب ربه، ?فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا?[الكهف:110]، وقال: ?كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ?[المطففين:15].
وأما الله عز وجل فلا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن ما وقع عليه البصر فليس بخالق ولا قادر.
وكذلك يأخذ الإنسان في العدل والتوحيد بهذه الآيات: ?إن اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ?[الأعراف:28]، ?وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?[الزمر:7]، وإذا مر عليه شيء من القرآن يقع عنده أنه مخالف لهذه الآية فليعلم أن تفسيره مثل تفسير المحكم، إلا أنه جهل تفسيره، مثل قول الله عز وجل: ?وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ?[الإسراء:4]، أي: تختارون اسم الفساد، كما قال: ?وَقَضَيْنَا إليه ذَلِكَ الْأَمْرَ?[الحجر:66]، يقول: أعلمناه.
والوجه الثاني في القضاء: أمر، كما قال سبحانه: ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ?[الإسراء:23].(1/101)