هذا وقد كثرت في هذه الأعصار الضلالات، وانتشرت كل الانتشار الجهالات، وصار يدعي اتباع الحق والدليل - ويموه على الرعاع من الأتباع بالوقوف على منهاج السنة ورفض التقليد، ليصدهم عن السبيل - مَنْ ليس من ذلك القبيل، بل هو رافض للحجج النيرة، مفرق لعمى بصره بين ما جمع الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الآيات المتكاثرة والأخبار المتواترة، من الكتاب والسنة والعترة المطهرة، واقف في حومة الدعوى، داع إلى تقليد أرباب الزيغ بمجرد الأهواء ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ?[الحج: 8-9] ووقعت شبههم هذه الباطلة، وتأثرت تمحالاتهم المضمحلة الماحلة في قلوب كثير ممن لا ثبوت لأفهامهم في مجال العلوم؛ ولا رسوخ لأقدامهم في مقام المنطوق والمفهوم، ولا اطلاع لهم على الحقائق؛ ولا تمييز بالنظر الصحيح بين مخالف وموافق.
وصار الحال كما قال:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا فارغاً فتمكنا(1/7)


وأكد هذا أن مؤلفات المخالفين منشورة؛ قد امتلأت بها جوانب المعمورة، وأسفار الهداة من سفن النجاة عن الانتشار محصورة ومهجورة، حتى صار الذين لا هوى لهم في مجانبة الحق، يطلعون على نقولات الباطل المختلق، ولا يهتدون إلى أقوال أئمتهم، وردود أعلام ملتهم، ويروون الروايات عن الرواة، فلا يفرقون بين معدّل ومجروح، ومقبول ومطروح، ولا يعرفون من هو في حزب المضلين الغواة، ومن هو في حزب المهتدين الهداة، مع سفن النجاة، - وهنا أغتنم الفرصة لأحث المؤمنين الأخيار من العلماء الأبرار وطلبة العلم الشريف كثر الله سوادهم على الاهتمام بإخراج كتب أئمتهم الأطهار، وشيعتهم الأبرار إلى حيّز الوجود، سليمة نقية صافية خالية من الدغل والزلل، وتوخي الأمانة والنزاهة في النقل من الأصول المأمونة.
هذا ومن العجائب وما عشت أراك الدهر عجباً أن أناساً من رؤساء هؤلاء الفريق، صاروا يموهون على الأغمار، بأن العترة الأطهار عليهم السلام، وأتباعهم الأبرار رضي الله عنهم، ينهون عن اتباع الدليل، ويأمرون بالتقليد، ويَسِمون - من خالف آل محمد صلوات الله عليه وعليهم ورفض الأدلة المعلومة من الكتاب والسنة - بالاجتهاد المطلق، والاتباع للحق.
ويا سبحان الله ومن الذي دعا الخلق إلى الحق، واتباع الكتاب والسنة، وهدى العباد، وسنّ لهم الجهاد والاجتهاد، والأخذ ببرهان الأدلة؛ غير أهل بيت النبوة؛ ومعدن الرسالة، قرناء التنزيل، وأمناء التأويل صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد علم كل ذي علم أنها ما تأسست التقليدات إلا لصد الناس عن العترة المطهرة عن الأرجاس، المنزهة عن الأدناس، وهي من البدع المحدثة في الأديان، التي ما أنزل الله بها من سلطان.(1/8)


وقد علم أولوا العلم أن هؤلاء الأئمة الذين أمروا الناس بتقليدهم، كانوا من أنصار أئمة العترة، القائمين بما أمرهم الله تعالى لهم من المودة والنصرة، وأقوالهم وأفعالهم معلومة، وحاشاهم عن رفض التمسك بالثقلين وتنكب سفينة النجاة، وترك المودة لمن أمرهم الله تعالى بمودته، وألزمهم بموالاته وطاعته، من أعلام أهل بيت نبيهم الهداة.
قال: المحدث الكبير يحي بن أبي بكر العامري في الرياض المستطابة:
وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن الأئمة المتبوعين في المذاهب بايع كل واحد منهم لإمام من أئمة أهل البيت، بايع أبوحنيفة لإبراهيم ابن عبد الله بن الحسن، وبايع مالك لأخيه محمد، وبايع الشافعي لأخيهما يحيى. انتهى المراد.
ومتابعة أبي حنيفة للإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام مشهورة.
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء صفحة (243) طبعة سنة 1408 هجرية: وفي سنة (45)كان خروج محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى قوله: وآذى المنصور خلقاً من العلماء ممن خرج معهما، أو أمر بالخروج، قتلاً وضرباً وغير ذلك، منهم أبو حنيفة وعبدالحميد بن جعفر، وابن عجلان.
وممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور، مالك بن أنس رحمه الله. انتهى.
هذا فكيف ينسب المبتدعون ذلك إلى ورثة الكتاب والسنة، وكل إمام منهم عليهم السلام يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ كلَّ من بلغته الدعوة، ومؤلفاتهم مشحونة بالأدلة على وجوب اتباع الأدلة، ولكن لا بد لكل مبتدع من دعوى كلمة حق يراد بها باطل، أو تلفيق شبهة زيغ يستهوي بها الجاهل الغافل، وهذا هو لبس الحق بالباطل الذي ينهى عنه الملك العادل، بأمثال قوله عز وجل:?وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:42].(1/9)


ولهذا تعين البيان بحسب الإمكان لما أخذ الله تعالى من الميثاق في منزل الفرقان، وسنة سيد ولد عدنان، ولسنا والحمد لله نستنكر من غلبة الباطل وكثرة أهله، ولا نستوحش لانقباض الحق وقلة حزبه، فإن سنة الله عز وجل في عباده، وعادته المستمرة في بلاده، التخلية بين خلقه في هذه الدار، ليتمكن الجميع من الاختيار، وقد أخّر الجزاء لدار القرار، واقتضت حكمته الربانية قبض الدنيا عن خاصة أوليائه، وانزواءها عن خلاصة أصفيائه، ليكون الاتباع لخالص الدين، والطاعة لمحض اليقين.
وتالله لقد غرست في صدور المتمردين شجرات، يجتنى من زيغها وضلالها ثمرات، ولله حكمة بالغة، وربنا الرحمن المستعان على ما يصفون.
وعلى كل حال فحزبه المنصورون وإن قُهروا، وجنده الغالبون وإن غُلبوا، كما قصه عز وجل في الكتاب المبين ?وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ?[الأعراف:128] وقد قال عمار الذي يدور مع الحق حيثما دار رضوان الله عليه، لما أُخّر عن المقام الذي اختاره الله تعالى له ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إمامه وإمام الأبرار:
يا ناعي الإسلام قم فانعه .... قد مات عرف وبدا منكر
ما لقريش لا علا كعبها .... من قدموا اليوم ومن أخروا
وذلك في صدر الإسلام فكيف بمثل هذه الأيام، التي هي من أعلام النبوة، بتصديق مواعيد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ من اغتراب الإسلام، وتغيير الأعلام، واقتراب ظهور دينه الحنيف، وتجديد شرعه الشريف، بقيام خاتم الأئمة ومقيم الحجة من أهل بيت نبيه، مهدي هذه الأمة، كاشف الظلمة، ومفرج الغمة ?فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ?[المائدة:52]، إنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/10)


قال بعض علماء العترة عليهم السلام: إني لأكثر التعجب، وما عشت أراك الدهر عجباً، من رجل عالم بمصادر الأمور ومواردها، وكيفية الاستدلال ومقاصدها، ودلالات الألفاظ على معانيها، وتراهم وهم كثير، يوردون ويروون عن الله عز وجل؛ وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الأدلة والنصوص، والقواطع في حق أهل البيت عليهم الصلاة والسلام على الخصوص؛ بما لا يمكن دفعه لفظاً ولا معنى، ولا سنداً ولامتناً، حتى إذا استنتجت منهم فائدتها، وطلبت منهم عائدتها، بوجوب اتباعهم الذي هو مقتضاه في علم أو عمل؛ أنكر وبرطم، ولوى عنقه وتجهم، وإن ذكرت عنده خلافتهم رآها نكراً، أو رأى من يتابعهم في مقالة أو مذهب عده مبتدعاً، أو سمع بقراءة في كتبهم ومؤلفاتهم اتحذها هزواً ولعباً، فما أدري مابقي لهم من معاني تلك الأدلة والنصوص، وأي فضل ترك لهم على الناس إذ أوجب عليهم أن يكونوا تبعاً والله قد جعلهم متبوعين، ومؤخرين والله قد جعلهم مقدمين، وأجل النظر فيما تجده في كتب كثير من محدثي العامة وفقهائها، فلا تلقاها إلا على هذا النهج، ما ذاك إلا لإرادة الله عز وجل إظهار الحق على ألسنتهم وأيديهم، حجة عليهم وإن راموا إنكارها. انتهى.
قلت: فقد صار الأمر في حالهم ما قصه الله تعالى من أمثال قوله تعالى:?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ?[النمل:14]، وأصل كل ضلالة وفتنة، ومنبع كل فرقة ومحنة في هذه الأمة، والأمم السالفة اتباع الأهواء، والإخلاد إلى الدنيا.(1/11)

2 / 172
ع
En
A+
A-