والإرادة الثانية من الله عز وجل: إرادة تخيير وتحذير، معها تمكين وتفويض، أراد من خلقه الإيمان على هذا الوجه؛ لأنه لو أراد منهم الإيمان على نحو ما أراد خلْقهم؛ ما إذا قَدَر واحد من خلقه أن يخرج من الإيمان إلى الكفر، كما لا يقدرون أن يتحولوا من صورهم إلى صور غيرهم من الخلق، ولكن ركب فيهم العقول، وأرسل إليهم الرسول، وهداهم النجدين، ومكنهم من العملين، ثم قال: ?فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ?[الكهف:29]، وقال: ?إنا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا?[الإنسان:3]، وقال: ?وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى?[فصلت:17]، فدل على أنه هداهم، واستحبوا هم العمى على الهدى اختياراً من أنفسهم واستحباباً، ثم قال: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ?[فصلت:40]، لولا أن لهم مشيئة لم يقل: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ? ثم قال: ?لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا?[الكهف:77]، لولا أن موسى صلى الله عليه علم أن للعالم فيما يريد مشيئة ما قال: ?لَوْ شِئْتَ?، ثم قال: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ?[النحل:107]، قال: استحبوا هم لأنفسهم، ثم قال: ?يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إليهمْ?[الحشر:9]، وقال: ?يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ?[المائدة:54]، وقال: ?تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا?[الأنفال:67]، ?يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ?[التوبة:32]، ?يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ?[النساء:91].(1/87)


ثم قال سبحانه: ?وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ?[التوبة:42]، فرد عليهم رب العالمين: ?يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ?[التوبة:42]، فبين عز وجل أنهم قادرون على الخروج مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا القرآن من هذا النحو كثير.
ثم قال الله عز وجل: ?إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ?، لولا أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقدر على أن يحب لم يقل له ربه: ?مَنْ أَحْبَبْتَ?، ثم قال: ?وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56]، وقال: ?وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا?[السجدة:13]، وقال: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لامَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ?[يونس:99]، وقال: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً?[هود:113]، وقال: ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى?[الأنعام:35]، وقال: ?فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ?[الأنعام:149]، يعني عز وجل في هذه الآيات كلها وما أشبهها أنه سبحانه لو شاء أن يجبرهم على الإيمان والهدى مشيئة حتم وجبر ويقسرهم عليه لأمكنه ذلك، وما قدر واحد من خلقه أن يخرج مما حتم عليه وجبره وقسره؛ إذ كان محمد يعجز عن قسرهم على الإيمان، فقال له ربه: ?فإنما عَلَيْكَ الْبَلاغُ?[آل عمران:20]، فقد أبلغت وأديت ونصحت، وعرفتهم بما ينفعهم، ?لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ?[الشعراء:3]، فتريد أن تقتل نفسك: ?إن لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا?[الكهف:6]، يقول: حزناً عليهم وشفقة، فذرهم: ?وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ?[النحل:127]، فقال: مما يمكرون، ولولا أنهم يقدرون على المكر والخديعة والمعصية ما قال: يمكرون.(1/88)


ثم قال في أهل الجنة: ?وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا?[الأنعام:182]، ?وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[الواقعة:22-24]، ثم قال: في أهل النار: ?الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ?[الأنعام:93]، وقال: ?جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ?[فصلت:28]، و?يَصْنَعُونَ?، و?يَمْكُرُونَ?، و?يَسْتَهْزِئُونَ?، و?يَسْخَرُونَ?، و?يَخْدَعُونَ?، و?يَكْذِبُونَ?، و?وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ?، و?وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ?، كل هذا اختيار من أنفسهم.(1/89)


الإذن
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الإذن في كتاب الله على وجهين: علم، وأمر:
[الإذن الأول]: قال الله عز وجل: ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلا بِإذنِ اللَّهِ?[التغابن:11]، يقول: بعلم الله، ويقول: ?وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلا بِإذنِ اللَّهِ?[البقرة:102]، يقول: بعلم الله، ويقول: ?فَقُلْ ءَاذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ?[الأنبياء:109]، يقول: أعلمتكم، وقال: ?فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ?[البقرة:279]، يقول: اعلموا أنكم إن لم تقلعوا من الربا صرتم حرباً لله ولرسوله.
والإذن الثاني: إذن أمر، قال الله عز وجل: ?وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلا بِإذنِ اللَّهِ?[يونس:100]، يقول: بأمر الله، لولا أن الله أمرها بالإيمان لم تؤمن، ولكن جعل في الإنسان العقل ثم أمره بالإيمان فآمن بإذن الله وأمره.(1/90)


الكفر
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الكفر في كتاب الله على معنيين:
أحدهما: كفر جحود وإنكار وتعطيل، وذلك قول الله سبحانه يحكي عن قوم من خلقه: ?وَقَالُوا مَا هِيَ إلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلا الدَّهْرُ?[الجاثية:24]، فهؤلاء الدهريون المعطلون، الزنادقة، الملحدون.
والكفر الثاني: كفر النعمة، وذلك قوله سبحانه: ?وَإذ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إن عَذَابِي لَشَدِيدٌ?[إبراهيم:7]، يقول: حكم الله لشاكر النعمة بالزيادة، ولكافر النعمة بالعذاب الأليم.
ثم قال: ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ?[المائدة:44]، والكافر فهو كل من ارتكب معاصي الله وخالف أمره وضاد حكمه، فهو كافر لنعم الله معاند لله تجب البراءة منه والمعاداة له، كما قال الله سبحانه: ?لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ?[المجادلة:22]، فحرم الله موادة من كان لله عاصياً وله معانداً.(1/91)

18 / 172
ع
En
A+
A-