قَالَ إن اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ?[البقرة:247]، فقد بين عز وجل في هذه الآية أن الملك هو الأمر والنهي، لا سعة المال، ثم قال: ?وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ? [آل عمران:26]، فقد أعز الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين وأوليائهم الصالحين، وذلك قوله سبحانه: ?وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ?[المنافقون:8]، والمؤمن لا يملك من متاع الدنيا شيئاً، فسماه الله عزيزاً؛ إذ فعله ذلك يوصله إلى دار العز أبد الأبد، ثم قال: ?وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ?[آل عمران:26]، فقد أذل الفراعنة ومن تبعهم من الظالمين؛ لأنهم معتدون غير محقين.
فكل من كان في يده أمر ونهي، وكان فعله مخالفاً للكتاب والسنة فهو فرعون من الفراعنة، وكل عالم متمرد فهو إبليس من الأبالسة، وكل من عصى الرحمن من سائر الناس فهو شيطان من الشياطين، وذلك قوله: ?شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ?[الأنعام:112]، ثم قال: ?مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ?[الناس:6].
والظالم وإن اتسع في هذه الدنيا من مال غيره، وأكثر من مظالم الناس، ووقع عند الجاهل أنه عزيز، فهو عند الله عز وجل وعند أوليائه ذليل ؛ لأن فعله ذلك يورده إلى دار الذل أبد الأبد، كما قال الله عز وجل: ?مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ?[آل عمران:197]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأمراء الظالمين: ((طعمة قليلة وندامة طويلة.)).(1/77)


أعوان الظلمة
وفعل هؤلاء الظالمين وأمرهم وسلطنتهم إنما تقوم بأعوانهم الذين يتبعونهم، ويعينونهم على ظلمهم، وإذا تفرق الأعوان منهم وأسلموهم لم تقم لهم دولة، ولا تثبت لهم راية، فمتى كثرت جماعتهم تقووا بهم على باطلهم، واستضعفوا المستضعفين من خلق الله، وأمهل لهم ربهم وتركهم، ولم يَحُل بينهم وبين من يظلمونهم؛ إذ كلٌّ ظالم، القوي والمستضعف، وذلك قوله عز وجل: ?وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ?[الأنعام:129]، وقال: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?[مريم:83]، يقول: خليناهم عليهم، كما قال: ?بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ?[الإسراء:50]، وكما قال النبي صلى الله عليه وآله: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم، حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان الله المنتصر لنفسه، فيقول: ما منعكم إذ رأيتموني أُعصى أن لا تغضبوا فيّ.)).
فمن هذه الجهة ترك الظالمين ولم يأخذهم؛ لأن الرعية في ظلمهم وتظالمهم فيما بينهم أصناف:(1/78)


فقوم يقولون على الله بالجبر والتشبيه، وينفون عنه العدل والتوحيد، وينسبون إليه عز وجل أفعال العباد، ويقولون: إن هذا الذي نزل بهم بقضاء وقدر، ولولا أن الله قضى عليهم بهذا الظلم الذي نزل بهم من هؤلاء الظالمين ما إذا قدر الظالم أن يظلمهم، غير أن هذا الظلم مقدر عليهم عند الله على يدي هذا الظالم. فإذا كانت معرفتهم هذه المعرفة، وكان معبودهم الذي يزعمون أنهم يعبدونه هذا فعله بهم؛ فمتى يصل هؤلاء إلى معرفة الخالق، ومتى يدعونه ويستعينون به على ظالمهم؟ إنما هم يدعون هذا الذي يزعمون أنه قضى عليهم بهذا الظلم وقدره، ولهذا يصلّون، وله يصومون ويحجون، وبه في جميع ما ينزل بهم من الظلم والجور والمصائب في المال والولد والبدن يستغيثون به على دفع هذه المضار والبلوى التي نزلت بهم. فهم يعبدون صورة مصورة، وعلى هذا النحو أسلمهم ربهم، وتركهم من التوفيق والتسديد، وخذلهم ولم ينصرهم على ظالمهم، وكيف ينصرهم على ظالمهم وهو المقدر لهذا الظالم عليهم الذي نزل بهم؟ فهو الذي يدعونه بزعمهم.
أما إنهم لو أنصفوا عقولهم، وعرفوا الله عز وجل حق معرفته، ونفوا عنه ظلم عباده، كما نفاه عز وجل عن نفسه، ثم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ودعوا ربهم حينئذٍ على ظالمهم؛ إذا لاستجاب لهم دعوتهم، وكشف ما بهم من الظلم والجور، وذلك قوله عز وجل: ?ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ?[غافر:60]، وقال: ?وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ?[الروم:47]، ?كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ?[يونس:103].(1/79)


الهدى
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الهدى من الله عز وجل هديان: هدى مبتدأ، وهدى مكافأة.
فأما الهدى المبتدأ: فقد هدى الله به البَرّ والفاجر، وهو العقل والرسول والكتاب. فمن أنصف عقله وصدق رسوله وآمن بكتابه وحلل حلاله وحرم حرامه؛ استوجب من الله الزيادة بالهدى الثاني؛ جزاء على عمله، ومكافأة على فعله، كما قال عز وجل: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ?[محمد:17]، وقال: ?وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى?[مريم: 67].
ومن كابر عقله وكذب رسوله ورد كتابه؛ استوجب من الله الخذلان، وتركه من التوفيق والتسديد، وأضله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، وذلك قوله تبارك وتعالى: ?فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ? عني الهدى الثاني، ?وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ?، يقول: ومن يرد أن يوقع اسم الضلال عليه، بعد أن استوجب بفعله القبيح: ?يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ?[الأنعام:125]، فقد بين عز وجل في آخر الآية أنه لم يضله، ولم يضيق صدره إلا بعد عصيانه وكفره وضلاله؛ لأنه يقول: ?كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ?، ولم يقل إنه يجعل الرجس على الذين آمنوا.
ثم قال: ?أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً?[الجاثية:23]، (كما اتخذ إلهه هواه أوقع عليه اسم الضلال، وسماه ودعاه بعد أن اتخذ إلهه هواه وختم على سمعه)، وتركه من التوفيق والتسديد وخذله، ولم يؤيده ولم يسدده كما أيد وسدد الذي عبده، عز وجل.
ثم قال: ?يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[النحل:93، فاطر:8].(1/80)


ثم قال: ?وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلا الْفَاسِقِينَ?[البقرة:26]، وقال: ?كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ?[غافر:74]، ?كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ?[غافر:34]، ?كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ?[غافر:35].(1/81)

16 / 172
ع
En
A+
A-