مؤتلفة، وجماعتهم غير مختلفة، فصفوا لهم الصفوف، وضربوا وجوههم بالسيوف، ووفوا الله بعهده، فقاموا له فيه بأمره، صابرين محتسبين، ولذلك من فعلهم متخيرين، حتى لحقوا بالله مستشهدين، كراماً طيبين مطيبين، فائزين بالثواب، ناجين من العقاب، قد فازوا بالرضى والرضوان، يتقلبون في عرصات الجنان، ?تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا?، ?وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إنا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إنا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ انه هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ?[الطور: 24 - 28]
فاجتهدوا رحمكم الله واستغفروا، وقوموا لله بما أمركم به ولا تقصروا، ولا تركنوا إلى الخفض في الدنيا فتهلكوا، وجدوا في جهاد أئمة الظلم تسعدوا، إلا تفعلوه تكن فتنه في الأرض وفساد كبير، فإنهم إخوان من مضى من إخوانهم في ارتكاب الردى، والجري في ميادين الهوى، والصد عن أبواب الهدى، أهل الفسق والبغي، حزب الشيطان، أهل الجرأة على الله بالمخالفة والعصيان.
واعلموا رحمكم الله أن حكم الله فيهم وفيمن كان قبلهم واحد، وسنته في الفسقة الأولين كسنته في الظلمة الآخرين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: ?سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً?[الفتح: 23]، وقال سبحانه: ?سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا?[الأحزاب: 38].(1/713)


ألستم ترون رحمكم الله إلى أبواب النصر قد فتحت، وعلامات ما تؤملون من دولة آل رسول الله قد أقبلت، ودلالات ملكهم قد شرعت، وأسباب ما وعد الله به نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد ثبتت، وعلامات هلاك عدوهم قد وضحت، وبوادر الرحمة قد أقبلت، وإياكم قد أجنت وأظلت، ولكم بالنصر والتوفيق قد قصدت، فأقبلوا إليها ولا تدبروا، وتلقوها بقبلولها قبل أن تندموا، ألستم ترون ما قد صار إليه أعداء الله وأعداؤكم من النقص والخذلان والضلال والنقصان. فهم كل يوم يرذلون، وكل شهر ينقصون، وكل عام يفتنون، وقد تلعبت بهم عبيدهم، واجترأت عليهم ساستهم، فصاروا يسومونهم سوء العذاب، يقتلون من شاءوا منهم، ويقيمون من أرادوا منهم. يجبون الأموال لأنفسهم، وقد تسلط عليهم شرارهم وأعوانهم وعبدانهم، فلا مال عندهم ولا رجال في جوارهم، ولا أمر ولانهي لهم، ليس في أيديهم ولا لهم بلد يجوز فيه أمرهم غير بعض القرى قد أحل فيهم الأعراب واستباحت ما قدرت عليه من رعيتهم، ينهبون حواشيهم، ويخيفون سبيلهم، ويقطعون طريقهم، لا يقدرون على نفيهم وإبعادهم، ولا ينالون مايشتهون من إذلالهم، بل هم الأذلاء الأقلاء، الفساق الضعفة. أشداء على الرعية والمساكين، أذلاء من الأقوياء والمحاربين، يخيفون ويأكلون من تحت أيديهم، ويدارون من نابذهم وتسلط عليهم. قد انهدم عزهم، وانحرقت مهابتهم، وفتكت بهم كلابهم، وقهرهم أشرارهم، وحكم عليهم عبدانهم، وقلت وانتفت من أيديهم الأموال، وتفرقت عساكرهم والرجال، زهداً من الرجال فيهم، ورغبة في خير من يجزل عليهم. قد مال عمود ملكهم، وانهدم باب عزهم، وتغير أساس أمرهم، وأعطت خلافتهم صاغرة قيادها، وزمت إلى من قادها بزمامها، وألقت إليه بسمعها وطاعتها، وذل لطالبها صعبها، ولان لراكبها مركبها، وذل له بعد الصعوبة ظهرها، وبرزت له من بعد شدة حجابها، واستقامت له وأضرعت لدنو نتاجها، ودرت لحالبها بدرة تسر الحالبين، وتنهل الشاربين، ويعلُّ(1/714)


فيها العالُّون، وينتعش ويشبع في أفوقتها الجايعون. فهي حافل تسحب رجليها مما تدر، ولكن لا حالب لدرتها، ولا منتهز لفرصتها، لقلة المحقين، وذهاب المؤمنين، وذلة المسلمين، وركون هذا الخلق إلى الفسق، وتركهم لاتباع دعوة الحق، وتعلقهم بالفاني من أمر الدنيا، وزهدهم فيما يدوم من الآخرة ويبقى، كأن لم يسمعوا الله سبحانه يقول: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ?[العنكبوت: 57]، وكأن لم يسمعوا ما أخبرهم به عنهم من عاقبة أمرهم، وقوله لهم في يوم حشرهم حين يقول: ?وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ?[الأنعام: 94].(1/715)


فاجتهدوا رحمكم الله، واستبقوا إلى الله وبادروا قبل أن تبادروا فإنه يقول: ?وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ?[الواقعة: 11]، واعلموا أن المسبوق لن يلحق بالسابق، والكاذب لا يكون عندالله كالصادق، أما سمعتم الله يقول: ?لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى?[الحديد: 10]، وقال: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحسان رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[التوية: 100]، فابتدروا إلى الله تسعدوا، ولا تتخلفوا عنه فتهلكوا، ويرميكم بالذل والصغار، ويحشركم يوم القيامة إلى النار، قد بذلت لكم النصيحة إن كنتم تحبون الناصين، والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد خاتم النبئين وعلى أهل بيته الطيبن وسلم تسليماً.
تمت الدعوة
وله أيضاً عليه السلام:(1/716)


جواب مسائل الحسين بن عبدالله الطبري
بسم الله الرحمن الرحيم
قال يحيى بن الحسين ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ما التبس من سيرة الإمام صلوات الله عليه
ذكرت - حاطك الله وحفظك ووفقك للصواب وسددك - أنه بلغكم وتناها إلى بلدكم أسباب من فعلنا، وأمور من سيرتنا التبس فيها على كثير من الناس الصواب، ولم يحضرك في كثير منها الجواب، فشنع من لا يفهمها، وأنكر علينا فيها من لا يعرفها، واستعجل بالظن السيء من لا يفقهها، حتى نسب صوابها إلى الخطأ، ونير حقها إلى العداء، فحشاً من قوله، وظلماً في حكمه، وبغياً في أمره، واستعجالاً بالسيئة قبل الحسنة، وبقول الخطأ قبل المعرفة، كأن لم يسمع الله سبحانه فيما يعيب على من فعل مثل هذا الفعال، وقال بالظن كما قال صاحب هذا المقال: ?لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ?[النمل: 46]، فنعوذ بالله لنا ولك ولكل مؤمن من ذلك، ونستجير به من أن نكون كذلك. وسنفسر لك إن شاء الله ما جهل فيه من جهل فعلنا، ونشرح لك من ذلك ما لم يقف عليه الطاعن في سيرتنا، حتى يصح لك ولهم في ذلك الصدق، ويبين لك ولهم أن فعلنا هو الحق، فما مثلنا ومثلهم وخبرنا وخبرهم فيما علمناه وجهلوه، وعرفنا مفاصل صوابه وعميوه، إلا كمثل موسى وصاحبه صلى الله عليهما العالم الذي اتبعه موسى على أن يعلمه مما علمه الله رشداً. فأعلمه أنه لا يستطيع معه صبراً، إذ ليس يعلم كعلمه، ولا يقف على ما يرى من فعله، فأخبره أنه لا يصبر إذا رأى منه شيئاً مما لا يعرفه حتى يسأله ويبحثه، ويدخله الشك في فعله، فقال له موسى: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً. ثم لم يصبر لما رأى ما ينكره قلبه حتى عاتبه فيه وسأله عنه، فكان أول ما أنكر عليه موسى عليه السلام: خرق السفينة، فعظم ذلك في صدر موسى، فقال له ما قال، فقال له العالم: ?أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا?[الكهف: 72]، فقال له موسى: ?لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا?[الكهف: 73]، فغفرها له، وانطلقا حتى إذا لقيا(1/717)

143 / 172
ع
En
A+
A-