حكم الفاسق من آل الرسول
فهذه صفات من تجب طاعته، وتحرم معصيته. ومن خالف ما ذكرنا، وكان على غير ما شرحنا من آل الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنكث عليهم، وأساء في فعله إليهم، ومنعهم من حقهم الذي جعله الله لهم، واستأثر بفيئهم، وأظهر الفساد والمنكر في ناديهم، وصير ما لهم دولة بين عدوهم، يتقووا به عليهم، ولا يقبضه منهم ويقسمه على صغيرهم وكبيرهم، وكانت همته كنز الأموال، والاصطناع لفسقة الرجال، ولم يزوج أعزابهم، ولم يقض غراماتهم، ولم يكس الظهور العارية، ولم يشبع منهم البطون الجائعة، ولم ينف عنهم فقراً، ولم يصلح لهم من شأنهم أمراً فليس يجب على الأمة طاعته، ولا يجب عليهم موالاته، ولا يحل لهم معاونته، ولا يجوز لهم نصرته، بل يحرم عليهم القيام معه ومكاتفته، ولا يسعهم الإقرار بحكمه، بل يكونون شركاؤه إن رضوا بذلك من أفعاله، ويكونون عند الله مذمومين، ولعذابه مستوجبين.
فنعوذ بالله من الرضى بقضاء الظالمين، ونعوذ به من الإعراض عن جهاد الفاسقين، الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فإن من أعرض عن جهادهم فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وبعد من حزب الرحمن، وصار من حزب الشيطان، ?أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ?.
وبعد، رحمك الله ووفقك وأعانك وسددك:(1/703)


الدعوة وشروطها
فإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى ما أمرني الله أن أدعوك إليه، وأخذ به علي العهد والميثاق، من الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، وإلى أن نحل نحن وأنت ما أحل لنا الكتاب، ونحرم نحن وأنت ما حرمه علينا، وإلى الاقتداء بالكتاب والسنة، فما جاءا به اتبعناه، وما نهيا عنه رفضناه، وإلى أن نأمر نحن وأنت بالمعروف في كل أمرنا ونفعله، وننهى عن المنكر جاهدين ونتركه، وإلى مجاهدة الظالمين من بعد الدعاء إلى الحق لهم، والإيضاح بالكتاب والسنة بالحجج عليهم، فإن أجابوا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المؤمنين، وإن خالفوا الحق وتعلقوا بالفسق حاكمناهم إلى الله سبحانه، وحكمنا فيهم بحكمه، فإنه يقول سبحانه: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إلا عَلَى الظَّالِمِينَ?[البقرة: 193]، والعدوان هنا فهو: الجهاد والعدو على من ظهر منه الاجتراء على الله والاعتداء.
ألا والدعوة مني لك، يرحمك الله، إلى ما تقدم ذكره من الكتاب والسنة، وأشرط لك ولمن معك على نفسي أربعاً:
الحكم بكتاب الله وسنة رسوله جاهداً ما استطعت.
والأثرة لكم على نفسي فيما جعله الله بيني وبينكم.
وأن أؤثركم ولا أفضل عليكم بالتقدمة عند العطاء الذي جعله حظاً في أمواله لكم ولنا قبل نفسي وخاصتي.
والرابعة: أن أكون قدامكم عند لقاء عدوكم وعدوي.
وأشترط لنفسي عليكم اثنتين أنتم شركائي فيهما:
النصيحة لله في السر والعلانية.
والطاعة في كل أحوالكم لأمري، ما أطعت الله، فإن خالفت طاعة الله فلا حجة لي عليكم.
هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.(1/704)


الحث على إجابة الدعوة
فإن يطعني من بلغته دعوتي يرشدوا، وحظهم يأخذوا، والفوز العظيم يرتجوا، وإن يتخلفوا عني ويعصوا أمري، ويسوفوا بطاعتي، ويتثاقلوا عن إجابتي، ويركنوا إلى الدنيا - الغارّة لهم كما غرت من قبلهم ممن مضى - أكن قد قدمت لله بما يجب عليَّ، وأكن عند الله إن شاء الله من الناجين، وأكن قد ثبت له عليهم الحجة إلى يوم الدين، وما كان علي إلا ما كان على جدي من قبلي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسول الأمين من التبليغ والاجتهاد في الدين، ?وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ?. فرحم الله من نظر في أمره، وقاس شبره بفتره، فقد أسفر الحق عن وجهه قناعه، ونادى بأعلى صوته أتباعه، وقامت الحجة للرحمن على كل من خلق من الإنسان، ?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلا الضَّلاَلُ?، ولا دون المعتدل إلا المائل، ولا بعد الجدة والشدة والقوة والشباب إلا الضعف والانبتات والزوال والذهاب، ولا بعد دار الدنيا الفانية إلا الآخرة الدائمة الباقية، وما بعد العمر إلا انقطاع الأجل، وما بعد الموت إلا البلاء والامحاق، ولا بعد الامحاق إلا يوم التلاق، ?يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ?[آل عمران: 30]، ذلك يوم وقوع الجزاء على ما تقدم من العمل في الدنيا، فيفوز المحقون بأعمالهم، ويخسر المبطلون، ويهلك المسرفون بأفعالهم، ?وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا?[الفرقان: 23]، ?مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إلا مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ?[الأنعام: 160] ذلك يوم الحسرة والندامة، وطلب الإقاله حين لا إقاله، ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ(1/705)


خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?[الزلزلة.]، ذلك يوم تشخص فيه الأبصار، وتظهر فيه الأسرار، ويحكم فيه بالحق الجبار، ?يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ?[الشعراء: 88 - 91]، وهم يصطرخون فيها نادمين، يقولون: ?رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ?[المؤمنون: 107] فيقول لهم الجبار: ?اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ?[المؤمنون: 108]، فيطلبون حينئذ الرجوع إلى ما كانوا فيه من الفناء، ويتمنون الموت والبلى، ويقولون: ?يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ?[الزخرف: 77]، فحينئذ تقطع قلوبهم حسرات، وتراكم عليهم الغموم والندامات على ما فرطوا فيه من العمل بما أمر هم الله به، والقيام بأكبر فرائضه، من الجهاد في سبيله، والمعاداة لأعدائه، والموالاة لأوليائه.(1/706)


فليعلم كل عالم أو جاهل، أو من دعي إلى الحق والجهاد فتوانى، وتشاغل، وكره السيف والتعب، وتأوّل على الله التأويلات، وبسط لنفسه الأمل، وكره السيف والقتال، والملاقاة للحتوف والرجال، وآثر هواه على طاعة مولاه، فهو عند اللطيف الخبير العالم بسرائر الضمير من أشر الأشرار، وأخسر الخاسرين. إن صلاته وصيامه وحجه وقيامه عند الله بور لا يقبل الله منه قليلاً ولا كثيراً، ولا صغيراً ولا كبيراً، وإنه ممن قال سبحانه فيه حين يقول: ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً?[الغاشية: 2 -4]. وكيف يجوز له الإقبال على صغائر الأمور من الصالحات، وهو رافض لأعظم الفرائض الزاكيات، وكيف لايكون الجهاد أعظم فرائض الرحمن، وهو عام غير خاص لجميع المسلمين، وعَملُ من عمِلَ به شامل لنفسه ولغيره من المؤمنين؛ لأن الجهاد عز لأولياء الله، مخيف لأعداء الله، مشبع للجياع، كاس للعراة النياع، ناف للفقر عن الأمة، مصلح لجميع الرعية، به يقوم الحق، ويموت الفسق، ويرضى الرحمن، ويسخط الشيطان، وتظهر الخيرات، وتموت الفاحشات. والمصلي فإنما صلاته وصيامه لنفسه، وليس من أفعاله شيء لغيره، وكذلك كل فاعل خير فعله لنفسه لا لسواه، فأين بالجهلة العمين والعلماء المتعامين؟ كيف يقيسون شيئاً من أعمال العباد، إلى ما ذكر الله سبحانه من الجهاد. هيهات هيهات، بَعُد القياس، ووقع على الجهلة الالتباس، وحبطت بلا شك أعمال المتخلفين، وخسر الراكنون إلى الدنيا، المؤثرون لما يزول ويفنى، المتشبثون بالأموال والأولاد والأهلين، وهم أحد اليومين لذلك مفارقون، ولما تشبثوا به تاركون، وعما آثروه على ربهم والجهاد في سبيله رائحون. وفي أولئك ومن كان من الخلق كذلك ما يقول الرحمن الرحيم فيما نزل من القرآن العظيم: ?قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا(1/707)

141 / 172
ع
En
A+
A-