ومن الدليل على ما قلنا به، من هلاك من تخلف من دعوة الحق، أو تثاقل عن إجابة محق، قول الله سبحانه لرسوله: ?فإن رَّجَعَكَ اللّهُ إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ?[التوبة: 83 -84]، فأمر الرسول بالرفض لهم، ولم يأذن في الخروج لهم ثانية أخرى، عقاباً عن التخلف عنه والتربص به، وحرمهم الخروج وسهام الغنائم، إذ السهام لا تقع إلا لمن حامى عليها، ولا تقسم إلا لمن كان حاضراً لها، وحرمهم ولاية الرسول وتوليته، وأوجب عليهم العداوة لهم. وبأقل من ذلك ما يقول الله سبحانه: ?سَيَقولُ الْمُخَلَّفُونَ إذا انطَلَقْتُمْ إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ?[الفتح: 15]، يريد بقوله: ?قَالَ اللَّهُ? أي: حكم الله عليكم، وأمرنا به فيكم. وفيما ذكرنا من هلاك المخلفين عن دعوة الحق والمحقين ما يقول أصدق الصادقين فيمن قال لإخوانه وتأخر: لا تنفروا في الحر. فقال جل جلاله عن يحويه قوله ويناله: ?وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ?[التوبة: 180]، وكفى في إهلاك الله وإخزائه للمتخلفين عن الحق والمحقين ما يقول لنبيئه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ?وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ?[التوبة: 84]، فنهى رسوله عن(1/698)
الصلوة عليهم، والوقوف على قبورهم، وحرم عليه الاستغفار لهم، ولم ينه عن ذلك إلا في غوي هالك عنده معذب شقي.
ثم أخبر أن المرتابين الذين هم في ريبهم يترددون، والتردد فهو الشك، والشك فلا يكون في حق إلا من أهل الفجور والفسوق. ومن أضل عند الله، أو أهلك، أو أشد عذاباً عند الله، أو آفك ممن تخلف عن الحق وهو يعرفه، وسوَّف بالإقبال إليه. فكذلك، لعمر أبي، الجفاة الرافضين للحق والمحقين، والمتأولين في ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله، ما لم يجعل الله إلى التعلق به سبيلاً، أشدُّ عذاباً عند الله، وآلم تنكيلاً ممن لم يعرف ما افترض الله عليه في الجهاد، فهو يتكمه في البلاء متحيراً عن ما اهتدى إليه غيره من العباد، فنعوذ بالله من التخلف عن أمره، والصد عن سبيله. فلا صد يرحمك الله أصد، ولا جرم عند الله أشدّ من جرم من تخلف عن الحق، ممن ينظر إليه من السواد الأعظم من الكبراء، وبه تقتدي العوام من العلماء والجهلاء، بل تخلف من كان كذلك ثم تخلف فقد عطل ورفض الحق، وأضعف دعوة الصدق؛ لأن كثيراً من ضعفة المؤمنين يقتدون بأفاعيله، لثقتهم به واتكالهم على رأيه، ونظرهم إلى عزيمته، إذ قصرت عزائمهم، وصغرت عن كثير من ذلك بصائرهم، فهم له أتباع في كل أمره، لايعدلون عن قوله ورأيه، ولا يفعلون إلا بفعله، وإن نهض نهضوا، وإن أقام أقاموا، وإن نصر نصروا، وإن خذل خذلوا، وكلهم مأخوذ بنفسه، إذ هو مقصر عن مدى غيره، والمنظور إليه منهم فمأخوذ بهم إن علم أنهم إليه ينظرون، وإياه يبصرون.(1/699)
فيا ويل من تخلف عن الله وخالف الهدى، وركن إلى الأولاد والدنيا، أما سمع قول الله تعالى فيما نزل من القرآن الكريم حين يقول لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ?قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ?[الفتح: 16] الآية، فأوجب لمن اتبع الجزاء الحسن والثواب، ولمن تخلف عن ذلك أليم العقاب، فنعوذ بالله من البلاء والحيرة والشقاء، والركون إلىما يزول ويفنى، والأثرة له على ما يدوم ويبقى.(1/700)
ثواب من اتبع القائم
فهذه سبيل من تخلف عن فروض الواحد الجليل، فأما من اتبع ما وصفنا من آل الرسول، فإنه عند الله تبارك وتعالى حق مقبول، فهو عند الله تبارك وتعالى من المسلمين المؤمنين، العابدين، الخاشعين، المؤدين لعظيم ما افترض الله عليهم، المفضلين على جميع المؤمنين في التوراة والإنجيل والقرآن المبين، المهاجرين إلى الله، قد وقع أجرهم على الله، وكرم مئابهم لديه، وأدوا إليه الأمانة، فنجوا وسلموا من الخيانة، كما قال سبحانه: ?وَالَّذِينَ هَاجرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وإن اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ?[الحج: 59]، ومن صح منه هذا الفعل فقد صحت له الولاية من رب العالمين، ومن الرسول والأئمة وجميع المؤمنين، وكان من الذين قال الله سبحانه فيهم: ?إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ?[الحجر: 47]، وكان من الآمنين للفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة كما قال أرحم الراحمين: ?هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ?[الأنبياء: 103]، وكانوا من البايعين لأنفسهم من ربهم بما بذل لهم من الثمن الربيح حين يقول سبحانه: ?إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[التوبة: 111]، فيا لها تجارة ما أربحها، ويا لها دعوة ما أرفعها، دنيا يسيره فانية، بآخرة كبيرة باقيه، وحياة أيام تزول بحياة أيام أبداً لا تحول، والنكد والنصب والشدة والتعب بالراحة والسرور، والغبطة له في كل الأمور. فاز والله من بادر(1/701)
فاشترى الجنة بأيام من حياته، وخاب من تخلف عن مبايعة الله، وسوَّف ويله وتمنى، وعلل نفسه وسهى، حتى نزلت به الداهية الدهيا، ونزل به الموت والفناء، وحصل في دار القيامة والجزاء، ?وَوَجَدُو مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا?[الكهف: 49].(1/702)