حظر الجهاد إلا مع من اصطفاه الله
ثم إن الله، جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله، حظر الجهاد مع جميع مَن خَلَق من العباد إلا من اصطفى، وأؤتمن على وحيه من عترة رسوله صلى الله عليه وعليهم، الذين هدى بهم الأمة من الضلالة والهلكة، لما في الجهاد من القتل والقتال، وسفك الدماء وأخذ الأموال، وهتك الحريم، وغير ذلك من الأحكام، وذلك فلا يكون إلا بإمام مفترض الطاعة، ولا يكون إلا من آل محمد صلى الله عليه وعليهم، الذين استنقذ الله بهم الأمة من شفا الحفرة، وجمع بهم كلمتها، وألف بين قلوبهم من بعد الافتراق والاختلاف، والتشاجر وقلة الائتلاف، فأصبحوا بنعمة الله على الحق مؤتلفين، ولما كانوا عليه من الكفر مجانبين، يعبدون الرحمن من بعد عبادة الأوثان، ويقرون بمحمد عليه السلام، داخلين في النور والإسلام، ناجين من عبادة الشيطان، تالين لآيات القرآن، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويقرون بالربوبية للواحد الجبار. قد اختار الله لهم منهمأئمة هادين، وجعلهم من ولد نبيه خاتم النبيئين، وفي ذلك مايقول: ?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ?[القصص: 68]، من أهل النبوة وموضع الرسالة، ومعدن الحكمة، وبيت النجاة والعصمة، الذين أمر الخلق باتباعهم، والكينونة معهم دون غيرهم، وذلك قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة: 119]. وفيهم وفي آبائهم ما يقول سبحانه: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة: 55] فجعل الولاية لهم خاصة، وثبت الإمامة فيهم، وأنزل الوحي عليهم بذلك. وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتى؛ إن اللطيف الخبير نبأني أنهما(1/693)
لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.)) فبين بذلك أنه من تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى. وفيهم يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما أحبنا أحد فزلت به قدم إلا ثبتته قدم حتى ينجيه الله تعالى يوم القيامة.)). وفيهم يقول: (( إن مثل أهل بيتى فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخل عنها غرق وهوى.)). وفيهم يقول الله تبارك وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ?[النساء: 59]، فجعل طاعتهم موصولة بطاعة رسوله، وطاعة رسوله موصولة بطاعته، ومعصيتهم مقرونة بمعصية نبيه، ومعصية نبيئه مقرونة بمعصيته، فمن عصاهم فقد عصى الله سبحانه ورسوله، ومن أطاعهم فقد أطاع الله.(1/694)
الإمام المفترضة طاعته
والذي افترض طاعته ذو الجلال والإكرام، من أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله على جميع من خلق وذرأ من الأنام، وبنى على طاعته وموالاته دعائم الإسلام: الورِع الفاضل التقي الكامل الباذل لنفسه لله، العالم الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، الفَهِم بمعاني الكتاب، المتفرع فيما يحتاج إليه من الأسباب، المجرد في أمره، الداعي إلى سبيل ربه، المباين للظالمين، الناهض بحجة رب العالمين، الكاشف لرأسه، المجرد لسيفه، الرافع لرايات الحق، المظهر لعلامات الصدق، الزاهد في حطام الدنيا، الراغب في الآخرة التي لا تفنى، والحافظ للرعية، المواسي لهم، المتحنن عليهم، المقرب غير المبعد، المهون غير المجهد، القارن لهم بنفسه في جميع أمره، الشفيق عليهم، الآخذ لمظلومهم من ظالمهم، المستوفي لحق الله من أيديهم، والراد له في مصالحهم، والمفرق لفيئهم فيهم، المسلم له إليهم، العادل في قسمه، المساوي بين رعيته في حكمه، الطارح الجبرية والتكبر، البعيد من الخيلاء والتجبر، والباسط لكنفه، المنصف لأهل طاعته، المتفقد لجميع معايشهم، الحامل لهم على ما أُمروا به من أديانهم، الممضي لأحكام الله فيهم، القائم بقسط الله عليهم، الرؤوف الرحيم بهم، العزيز عليه عنوتهم، المتعني بالجليل والدقيق من أمورهم، المشبه في ذلك لجده، ولما ذكر الله من أمره، حيث يقول سبحانه: ?لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيِْ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ?[التوبة: 128]، الشجاع السخي، الفارس الكمي.(1/695)
وجوب طاعة القائم لله
فإذا كان كذلك، ثم دعاهم إلى نفسه، والقيام لله بحقه، وجبت على الأمة طاعته، وحرمت عليهم معصيته، ووجبت عليهم الهجرة إليه، والمجاهدة بأموالهم معه وبين يديه، وكانت طاعته والهجرة إليه، والمجاهدة بأموالهم معه، والتجريد في أمره، وبذل الأموال والأنفس، والمبادرة إلى صحابته، والكينونة تحت كنفه، فرضاً من الله على الخلق، لا يسعهم التخلف عنه ساعة، ولا التفريط في أمره فينة، إلا بعذر قاطع مبين عند الله سبحانه، من مرض، أو عرج، أو عمى، أو فقر مدقع عن اللحوق به مانع، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: ?انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ?[التوبة: 41]، فمن كان على واحدة من هذه الأربع الخصال جاز له التخلف عند الواحد ذي الجلال، وإن لم يكن كذلك وجب عليه فرض المهاجرة والقتال، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: ?لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا?[الفتح: 17]، ويقول سبحانه: ?وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ?[التوبة: 92]، فجعل الله لمن كان على مثل هذه الحال من الفقر في تخلفه عن الجهاد مع المحق من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العذر.(1/696)
الوعيد على من تخلف عن القائم
فأما من سلم من ذلك، ولم يكن في شيء من أحواله كذلك، ثم تخلف عنه من بعد أن تبلغه دعوته، وتنتهي إليه رسالته، أو يقع إليه خبره، فهو غادر في دين الله فاجر، ولرسوله معاند، وعن الحق والصراط المستقيم عاند، مشاق لله محارب، إلى النار عادل وعن الجنة مجانب، قد باء من الله باللعنة، وجاهره بالمعصية، ووجب على الإمام إن حاربه حربه وقتله وإهلاكه، وإن لم يحاربه وتخلف عن نصرته وجب عليه إبعاده وإقصاؤه، وإبطال شهادته، وإزاحة عدالته، وطرح اسمه من مقسم الفيء. ووجب على المسلمين منابذته في العداوة والاستخفاف به، والاستهانة بكل أمره، لا يسعهم غيره، ولا يجوز لهم فيه سواه. ألا تسمع كيف يقول العزيز الكريم فيما نزل على نبيه من القرآن العظيم إذ يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ إلا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[التوبة: 38 - 39].(1/697)