والمعنى الذي يثبت في كل معنى، ويكون دليلاً على النور والهدى؛ فهو أن يكون العالم المتبحر في علمه المتمكن في فهمه، إذا ورد عليه أمر قاسه على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ومعنى قولنا قاسه: هو دبره ونظره، وفكر فيه وميزه، واستعمل في استخراجه من كتاب الله سبحانه وسنة نبيه وعقله، فغاص عند نزول النازلة في بحور الكتاب والسنة، حتى استخرج باستدلاله علم حاجته من كتاب ربه وسنته التي أنزلها على نبيئه. فهذا المعنى هو القياس الصحيح، ومعنى اسم القياس هاهنا من قول القايل: قاس، فإنما هو استدل وأصاب، وميز فاستخرج بقياسه وتمييزه الصواب من كتاب ربه، ووقف بحودة تمييز قياسه، وغوصان لبه على طلبه، وجال بما ركب الله في صدره من ثابت لبه، إذ أجاد استعماله في حاجته مما طلب من علم نوازل الأحكام، ووقف بذلك على معرفة أصول دين الإسلام، فكان بقياسه وتمييزه، راداً لفروع دينه إلى أصوله، فالتأم له بالتمييز والنظر، وجودة انصاف العقل والفكر ما افترق، وارتتق له بذلك في الأحكام ما انخرق. فافهم - هديت - معنى قول القائل: قاس ويقيس، واستعمل لبك في معرفة الفرق بين المعنيين اللذين ذكرنا، حتى يستدل فيهما على الهدى، وتكون من ذلك في قولك كله على الأستواء.
والحمد لله العلي الأعلى، وصلى الله على محمد المصطفى، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار الصادقين الأبرار.(1/683)
ثم اعلم من بعد كل علم ومن قبله، وعند استعمالك لعقلك في فهمه، أن الذين أمرنا باتباعهم من آل رسول الله، وحُضضنا على التعلم منهم، وذُكرنا ما ذكرنا من أمر الله برد الأمور اليهم، هم الذين احتذوا بكتاب الله من آل رسول الله، واقتدوا بسنة رسول الله، الذين اقتسبوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم، جداً عن جدٍ، وأباً عن أب، حتى انتهوا إلى مدينة العلم، وحصن الحلم، الصادق المصدَّق، الأمين الموفق، الطاهر المطهر، المطاع عندالله المقدر، محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فمن كان علمه من آل رسول الله على ما ذكرنا، منقولاً إلى آبائه مقتبساً من أجداده، لم يزغ عنهم، ولم يقصد إلى غيرهم، ولم يتعلم من سواهم؛ فعلمه ثابت صحيح، لا يدخله فساد ولا زيع، ولا يحول أبداً عن الهدى والرشاد، ولا يدخله اختلاف، ولا يفارق الصحة والائتلاف.
فإن قلت: أيها السائل قد نجد علماء كثيراً منهم ممن ينسب إليه علمهم، مختلفين في بعض أقاويلهم، مفترقين في بعض مذاهبهم، فكيف العمل في افتراقهم، وإلى من يلجأ منهم؟ وكيف نعمل باختلافهم وقد حضضتنا عليهم، وأعلمتنا أن كل خير لديهم، وإن الفرقة التي وقعت بين الأمة هي من أجل مفارقة الأئمة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قلنا لك: قد تقدم بعض ما ذكرنا لك في أول هذا الكلام، ونحن نشرح لك ذلك بأتم التمام.
إن اختلاف آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - أيها السائل عن أخبارهم - لم يقع ولا يقع أبداً إلا من وجهين:
فأما أحدهما: فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء، والغلط في الرواية والنقل، وهذا أمر يسير حقير قليل، يرجع الناسي منهم عن نسيانه، إلى القول الثابت المذكور له عند الملاقاه والمناظرة.(1/684)
والمعنى الثاني: فهو أكبر الأمرين وأعظمهما، وأجلهما خطراً وأصعبهما، وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه، واقتبس علمه من غير أجداده، ولم يستنر بنور الحكمة من علمهم، ولم يستضيء عند إظلام الأقاويل بنورهم، ولم يعتمد عند تشابه الأمور على فقههم، بل جنب منهم إلى غيرهم، واقتبس ما هو في يده من علمه من أضدادهم، فصار علمه لعلم غيرهم مشابهاً، وصار قوله لقولهم صلوات الله عليهم مجانباً، إذ علمه من غيرهم اقتبسه، وفهمه من غير زنادهم ازدنده، فاشتبه أمره وأمر غيرهم، وكان علمه كعلم الذين تعلم من علمهم، وقوله كقول من نظر في قوله، وضوء نوره كضوء العلم الذي في يده، وكان هو ومن اقتبس منه سواءً في المخالفة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والاقتداء، وإن كان منهم في نَسَبِه فليس علمهم كعلمه، ولا رأيهم فيما اختلف فيه الحكم كرأيه. والحجة على من خالف الأصل من آل رسول الله، كالحجة على غيرهم من سائر عباد الله، ممن خالف الأصول المؤصلة، وجنب عنها.(1/685)
والأصل الذي يثبت علم من اتبعه، ويبين قول من قال به، ويصح قياس من قاس عليه، ويجوز الاقتداء لمن اقتدى به؛ فهو كتاب الله تبارك وتعالى المحكم، وسنة رسول الله، اللذان جُعلا لكل قول ميزاناً، ولكل نور وحق برهاناً، لايضل من اتبعهما، ولا يغوى من قصدهما، حجة الله القايمة، ونعمته الدايمة. فمن اتبعهما في حكمهما، واقتدى في كل أمر بقدوهما، وكان قوله بقولهما، وحكمه في كل نازلة بهما، دون غيرهما فهو المصيب في قوله، المعتمد عليه في علمه، القاهر لغيره في قوله، الواجب على جميع المسلمين من آل رسول الله ومن غيرهم أن يرجعوا إلى قوله، ويتبعوا من كان كذلك في علمه؛ لأنه على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا دخل، ولله الحمد عليه. فمن كان على ما ذكرنا، وكان فيه ما شرحنا، من الاعتماد على الكتاب والسنة، والاقتباس منهما والاحتجاج بهما، وكانا شاهدين له على قوله، ناطقين بصوابه، حجة له في مذهبه، فواجب على كل أحد أن يقتدي به، ويرجع إلى حكمه.
فإذا جاء شيء مما يختلف فيه آل رسول الله صلى الله عليه وآله، ميَّز الناظر المميز السامع لذلك بين أقاويلهم؛ فمن وجد قوله متبعاً للكتاب والسنة، وكان الكتاب والسنة شاهدين له بالتصديق؛ فهو على الحق دون غيره، وهو المتبع لا سواه، الناطق بالصواب، المتبع لعلم آبائه في كل الأسباب.(1/686)
وإن ادّعى أحد من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه على علم رسول الله، وأنه مقتد بأمير المؤمنين، والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فاعلم هديت أن علم آل رسول الله لا يخالف علم رسول الله، وأن علم رسول الله لا يخالف أمر الله ووحيه، فاعرض قول من ادّعى ذلك على الكتاب والسنة؛ فإن وافقهما ووافقاه فهو من رسول الله، وإن خالفهما وخالفاه فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم، وكما قال فيما روينا عنه، حين يقول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إنه سيكذب علي كما قد كذب على الانبياء من قبلي؛ فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله.)).
وهذا أصل في اختلاف آل رسول الله ثابت، ودليل على الحق صحيح، فاعتمد فيما اختلفوا فيه عليه، واستعمله في ذلك يبن لك الحق حيث هو، ويصح لك المقتبس من علم آبائه صلوات الله عليهم، والمقتبس من غيرهم، وتصح لك الحجة في جميع أقوالهم، وتهتدي به إلى موضع نجاتك، وتستدل به على مكان حياتك، وتقف به على الذين أمرناك باتباعهم بأعيانهم، فقد شرحنا لك شرحاً واضحاً، وبيناهم لك تبياناً صحيحاً، حتى عرفتهم إن استعملت لبك بما بينالك من صفاتهم، كما تعرفهم بالرؤية بأعيانهم، وتقف عليهم بأساميهم وأنسابهم.
والحمد الله على توفيقه وإرشاده، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
كمل الكتاب والحمدلله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله وسلامه
وله أيضاً عليه السلام:(1/687)