أرضه، والتفتيش عن حاجة سائله، كما يعمل الجاهل بمواضع تلك الأشجار، وأماكن تلك الثمار.
فالعالم في علمه، وعند قياسه وحكمه، والمعرفة بما يرد عليه من شرائع دينه، كصاحب هذه الأرض المهتدى، إلى ما يطلب منها، العالم بمواضع ثمارها، الخابر بنواحي أشجارها. فحال العالم في علم ما دارس من حكمه، وحفظ وأحاط به من علمه، كحال معرفة صاحب هذه الأرض بأرضه، فاستدلال العالم واهتداؤه إلى قياس العلم والأحكام، فيما يرد عليه من الحلال والحرام، كاستدلال صاحب الأرض إلى أشجارها، ومعرفته بما يبتغيه من ثمارها، لا فرق بينهما ولا اختلاف عند ذي عقل فيهما؛ بل اهتداء من هداه الله إلى علمه، واستدلال من دله الله على غوامض حكمه، أبين تبياناً ، وأنور في العقل برهاناً من اهتداء صاحب الأرض في أرضه ومعرفته بما غرس من شجره.
والحمدلله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.(1/673)
ثم اعلم أيها السائل أن كل قياس جاء مخالفاً للكتاب، أو جاء الكتاب له مخالفاً، حتى يكون كل واحد منهما ضد للآخر فلا يصح هذا القياس أبداً، ولا يثبت معه تأويل ولا هدى؛ لأنه مخالف للأصول، ولم يكن - ولله الحمد - ثابتاً في الفصول، وفي ذلك ومثله وما كان من شكله، ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنه سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي؛ فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله.)). فجعل صلى الله عليه وآله الكتاب إماماً لكل ما روي عنه، أو قيل إنه منه؛ يُعرض عليه، فإن جاء مثله، عُلم أنه من قوله، وإن جاء مضاداً لشيء منه، عُلم أنه ليس عنه. فهذا في الأثار المذكورة عن الرسول، فكيف فيما سواها من القياس الذي يتعاطاه ويطلبه بعض الناس، فلعمري لا يصح من قياسهم، ولا يجوز من مقالهم، إلا ما يشهد له الكتاب والسنة، وكانت الموافقة لهما منه نيرة بينه، فعند موافقة القياس للكتاب يصح القياس في الألباب، وعند مخالفة القياس للكتاب يبطل ويفسد في جميع الأسباب. فليفهم من كان ذا فهم ما به في القياس قلنا، ومامنه أجزنا، وما منه دفعنا وأبطلنا.(1/674)
والقياس فلا يجوز أبداً، ولا يكون أصلاً بحيلةٍ من الحيل، ولا يمكن أن يتناوله متناول، ولا يطول إليه متطاول، ولا يطمع به طامع، إلا من بعد إحكام أصول العلم بالكتاب، والوقوف على ما فيه من جميع الأسباب، من الحلال والحرام، وما جعل الله فيه من الأحكام، وبيّن تبارك وتعالى من شرائع الإسلام التي جعلها الله سبحانه للدين قواماً، وللمسلمين إماماً. ومن بعد علم أصول السنة، وفهم فروعها المتفرعه، فإذا تمكن المتمكن في علمه، وأحاط بجوامع ما تحتاج إليه الأمة في دينها، ثم تفرع فيما لا غناء بالأمة عن معرفته في جميع أسبابها، من حلالها وحرامها، وما جعله الله ديناً لها، وافترضه سبحانه عليها، فإذا تفرع في علوم الدين، وأحاط بمعرفة ما افترض على المسلمين، فكان بذلك كله عارفاً، ومن الجهل لشيء منه سالماً، ثم كان مع ذلك ذا لب رصين، ودين ثابت متين، جازَ له القياس في الدين، وأمكنه الحكم في ذلك وبه بين المؤمنين، وكان حقيقاً بالصواب، حرياً باتقان الجواب.(1/675)
فأما إن كان في شيء مما ذكرنا ناقصاً، أو عن بلوغه مقصراً؛ فلن يصح له أبداً قياسه، ولن يجوز له في دين الله التماسه؛ لأنه للأصول غير محكم، وبالفروع غير فهم، ولن يقيس المثال على مثاله، أو يحذو الشكل على شكله، إلا العارف بمحكمات أصله، فإذا أحكم أصله قاس بذلك فرعه. ومَثل ما به قلنا من تصرف الحالات في أهل القياس والمقالات، كمثل أهل الصناعات من الأبنية والصاغات، فإذا كان منهم صانع محكم لعمله، محيط بأصل صناعته، عارف بابتدائها وانتهائها وآلاتها، عالم بتأليفها وأحكامها، ثم ورد عليه مثال يمثله، أو شيء يحتذيه ويصنعه، احتذا فيما تصور من مثاله، بما عنده من محكم أعماله، وأتى به على قياسه، لمعرفته بأصل قياسه، وإحكامه لما قد أحكم من أعماله، فعلى قدر تفرعه في البصر بأصول الصناعات، وتمكنه في المعرفة بها في كل الحالات، يكون إحكامه لتمثيل المثال على مثله، وتشبيه الشكل المطلوب منه بشكله، حتى يكون ما يأتي به مشابها لما يحتذي به، لا يخالفه في شبهه، ولا يفارقه في قياسه، ولن ينال ذلك غيره ممن لم يحكم أصول عمله، ولم يفهم متفرعات أنواع صناعته. فكذلك المتناول للقياس في الأحكام، المتعاطي لذلك من شرائع الإسلام، لا يجوز له قياسه، ولا يصح له مثاله، حتى يكون لأصول الدين محكماً، ولشرائع العلم فهماً، ولمعرفة الكتاب والسنة قائماً؛ فعند ذلك يكون في قياسه كاملاً، ولعلمه محكماً، وعلى ما يطلب من ذلك كله قادراً.(1/676)
أهل البيت هم أعلم الخلق بالكتاب والسنة
ثم اعلم أيها السائل علماً يقيناً، وافهم فهماً ثابتاً مبيناً، أن العلماء تتفاضل في علمها، وتتفاوت في قياسها وفهمها، وفيما قلنا به من ذلك ما يقول الله سبحانه: ?نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ?[يوسف: 76]، وأنه ليس أحد من المخلوقين أولى بفهم أحكام رب العالمين، ممن اختاره الله واصطفاه وانتجبه وارتضاه، فجعله مؤديا لدينه، قائماً بحكمه، داعياً لبريته، حائطاً لخليقته، منفذاً لإرادته، داعياً إلى حجته، مبيناً لشريعته، آمراً بأمره، ناهياً عن نهيه، مقدماً لطاعته، راضياً لرضاه، ساخطاً لسخطه، إماما لخليقته، هاديا لها إلى سبيله، داعياً لها إلى نجاتها، مخرجا لها من عمايتها، مثبتاً لها على رشدها، مقيماً لها على جواد سبلها، ناصحاً لله فيها، قائماً بحقه سبحانه عليها. وذلك وأولئك فهم صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وخلفاؤه في أرضه، الأئمة الهادون، والقادة المرشدون، من أهل بيت محمد المصطفى، وعترة المرتضى، ونخبة العلي الأعلي، المجاهدون للظالمين، والمنابذون للفاسقين، والمقربون للمؤمنين، والمباعدون للعاصين، ثمال كل ثمال، وتمام كل حال، الوسيلة إلى الجنان، والسبب إلى الرضاء من الله والرضوان، بذلوا أنفسهم للرحمن، وأحيوا شرائع الدين والإيمان، لم يهنوا ولم يفتروا، ولم يقصروا في طلب ثار الإسلام ولم يغفلوا، نصحوا المسلمين، واحبوا المؤمنين، وقتلوا الفاسقين، ونابذوا العاصين، وبينوا حجج رب العالمين على جميع المربوبين، ?لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وإن اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?[الأنفال: 42].(1/677)