فكان مثلهم فيما فعلوا من ذلك، كمثل قوم ركبوا مفازة مضلة، وأخذوا معهم فيها أدلاء بصراء، حتى إذا توسطوها قتلوا الأدلاء، فبقوا في حيرة، عمياً لا يهتدون سبيلاً، ولا يعرفون ماء ولا طريقاً، فلم يزالوا فيها محيرين ذاهبين وجائين، مقبلين ومدبرين، حتى هلكوا أجمعين، فكانوا سبب هلاك أنفسهم، وسبيلاً إلى تلفهم، فذهبوا غير مقبولين ولا محمودين، بل مذمومين عند الله معذبين.
كذلك مثل هذه الأمة ومعناها، فيما نالته من فقهائها وأدلائها، الذين جعلوا لمن تبعهم نوراً وهدى، ودليلاً على الله العلي الأعلى، وهم آل محمد صلى الله عليه وعليهم، فَضلَّت الأمة بعدهم، وهلكت عند مفارقتهم. ولعمري أن لو قصدت لرشدها، وتعلقت بالحبل، الذي جعل لها متعلقاً وكهفا في كل أمر وملجئاً لما ضلت عن رشدها أبداً، ولا وقع اختلاف بين اثنين في فتيا، ولا اشتبه مشتبه في حلال ولا حرام، إلا وجدناه عن آل محمد عليه السلام؛ لأنهم أهل ذلك وموضعه ومكانه، ومركبه الذي ركبه الله عليه، وجعله معدنا له وفيه، اختاره لعلمه، وفضّله على جميع خلقه، نوراً على نور، وهدى على هدى، وحاجزاً من كل ضلالة وردى، أئمة هادين، ونجبة مصطفين، لا يخاف من اتبعهم غياً، ولا يخشى عمى ولا ضلالاً، محجة الإيمان، وخلفاء الرحمن، والسبيل إلى الجنان، والحاجز عن النيران. تقاة أبرار، وسادات أخيار، أولاد النبيين، وعترة المصطفين، وسلالة النبي، ونسل الوصي، وخيرة الواحد العلي. مشرب لايظمأ من ورده، ودواء لايسقم من تداوى به، شفاء الأدواء، ووقاية من البلاء، كهف حصين، ودين رصين، وعمود الدين، وأئمة المسلمين، قولهم صواب بلا خطأ، وقربهم شفاء بلا ردى؛ أعني بذلك الطاهرين المطهرين، والأئمة الهادين، من أهل بيت محمد المصطفى، وموضع الطهر والرضى، الوافين إن وعدوا، والصادقين إن نطقوا، والعادلين إن حكموا وبالله التوفيق.(1/668)


فإن قال السائل عن الخلفة، المتكلم في الفرقة: أفتقولون إنهم لو قصدوا هذا المعدن في علمهم، واقتبسوا منه في حلالهم وحرامهم، لم يضلوا ولم يفترقوا، ولم يقع اختلاف بينهم فيما به تكلموا؟
قيل له: نعم، كذلك نقول، وإليه معنانا يؤول.
فإن قال: فكيف لا تقع الفرقة، ولا تكون بين أولئك - صلوات الله عليهم - خلفة؟
قيل له: لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة، فلم يحتاجوا إلى إحداث رأي ولا بدعة. تكلموا بالكتاب الناطق، واعتمدوا على الوحي الصادق، فكان الكتاب والسنة لهم إماماً يحتذون حذوه، ويقتدون في الأمور قدوه، فثبتت بذلك لهم الألفة، وزالت عنهم الفرقة.(1/669)


كل ما تحتاج إليه الأمة في كتاب الله وسنة رسوله
فإن قال السائل: فخبرونا فيما عنه نسألكم، وأنبئونا عما نسمع من قولكم، أتقولون: إن جميع ما يدور بين الناس من الحلال والحرام، وما يرد من أحكام هذه الأمة على الحكام، وما يجري بينها من القضايا والأحكام في قليل القضاء وكثيره، وقديمه وحديثه، وصغيره وكبيره، هو كله في الكتاب موجود، وفي قلوب الحكام من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثابت غير مفقود، فكل ما ورد عليهم سبب من الأسباب، وجدوه عند وروده مثبتاً في الكتاب، وكان في صدورهم محفوظاً موجوداً معلوماً مصححاً؟
قيل للسائل عن ذلك: إن الأصولَ كلها والفروعَ المحتاجَ إليها في الكتاب والسنة. فإذا علم العالم ذلك، وأتى على معرفته، وعرف مجمله ومحكمه، وفروعه ومتشابهه، ونظر في ذلك كله بقلب فَهِم سالم من الجهل، بري من الخطل، بعيد من الزلل، ثم وردت عليه مسألة استدرك علمها ساعة ترد عليه، إما بآيه ناطقة، أو شريعة باسقة، تنطق له بالحكم فيما ورد عليه، وتبين له ما يحتاج من ذلك إليه بقياس يصح من السنة، ويثبت في الآيات المحكمة، وتشهد له الشرائع المشروعة بكون هذا القياس فرعاً من فروع الحق ثابتاً، ونوراً شاهداً على ما فيه من الصدق، فيكون القياس ممن علم ما قلنا، وتفرع فيما ذكرنا، وفهم ما شرحنا، قياساً واحداً، إذ كان له ذلك أصلاً مؤصلاً، تخرج هذا القياس وتبينه وتشرعه وتوضحه وتدل عليه وتفرعه حجج الله التي في الصدور المركبة، للتميز بين الأمور من هذه العقول المجعولة لما ذكرنا، المركبة لما شرحنا، من التمييز بين الباطل والحق، والفرق بين البر والفسق.(1/670)


فإذا علم الحاكم ما يحتاج إليه من الأصول والفروع لم يخرج كل ما يرد عليه من أن يكون حكمه وقياسه في أصول الكتاب وفروع السنة، إما شيئاً ناطقاً قائماً قد حكم به المجمل الموصل، وبينه الفرع المفصل، فيحكم فيه بحكمها، ويحتذي العالم فيه بوحيهما. فإن عدم لفظ ما يأتي من الحكم والفتيا، من أن يكون في المجمل أو المفصل منصوصاً مفسراً، لم يعدم قياسه والدليل عليه، حتى يقف بالمثل على مثله، ويعرف الشكل في ذلك بشكله، ويقيس ما أتى من ذلك على أصله؛ لأن أصل كل حق وهدى، وقياس كل حكم أبداً ففي الكتاب والسنة موجوداً، يستخرجه العالم بعقله، ويستدل على قياسه بمركب لبِّه، حتى يبين له نوره، ويشرع له طريقه، ويصح له قياسه على الحق الذي في الكتاب، تشهد له بذلك شواهد القرآن، وتنطق له بالتصديق السنة في كل شأن، فيكون العالم في علمه واستخراجه بما يحتاجه إليه من حكمه من كتاب الله وسنته، على قدر ما يكون من صفاءِ ذهنه، وجودة تمييزه، واستحكام عقله، وإنصافه لِلُبِّه، وجودة تمكن علم الأصول في قلبه، وثبات علم الكتاب والسنة في صدره، اللذَيْن عليهما يقيس القائسون، وبهما يحتذي المحتذون، وإليهما يرجع الحاكمون، ومنهما يقتبس المقتبسون، وإليهما عند فوادح النوازل يلجأ العالمون.(1/671)


فإذا كملت معرفة العالم بأصول العلم المعلوم، وصحت معرفته بفهم غامض الشرائع المفهوم، فكان لعلمه به واستدراكه لغامضه، وجودة دراسته وإحاطته بباطنه وظاهره، قاهراً بحول الله وقوته لما يرد عليه من متشابهه، عارفاً بما يحتاج إليه من قياسه، مضطلعاً بتمييز فروعه، بصيراً بتفريع أموره، وكل ما ورد عليه من ذلك وارد أصدره باستدراكه له مصدره، فَصَعْبُ العلم على كل من كان كذلك سهل يسير، وغامضه عنده - والحمدلله - بيِّن منير، لا يشتبه عليه فيه شبهان، ولا يستوي في الحكم عنده منه ضدان، يميز مميزاته بعقله، ويفرق مفترقاته بلبه، ويجمع متجمعاته بفهمه، قد أحكمته في ذلك التجربة، وأعانته على ذلك الخبرة، فكلما ورد عليه فرع من الفروع رده إلى أصله، وكلما ورد عليه شيء من المتشابه بينه بالرد له إلى محكمه، لا يغيب عمن وهبه الله علم كتابه وفهمه معاني سنته موضع حاجته، ولا مكان فاقته من حلاله وحرامه، وما يرد عليه من مفترق القضاء عند ورود مزدحمات المسائل على قلبه، ومتراكمات النوازل على فهمه، فكلما ورد عليه من ذلك وارد فادح، أو قدح في قلبه منه عظيم قادح، اعتمد في فصله وقطع مشتبهات أمره على الأصول المحكمات في قلبه، والفروع المتفرعات في صدره من الكتاب والسنة، فأنار له بعون الله وفضله نور الحق وصدقه، ووضح له برهان الحكم وحقه، فقال في ذلك بقول أصيل، واستدل منه على الحق بأفضل دليل، فمثله فيما يرد عليه من الفروع والفصول، مما يحتاج إلى قياسه على الأصول، كمثل الرجل اتخذ أرضاً، فجعل في كل جانب منها نوعاً من أنواع الأشجار، ثم غذاها وسقاها، وقام عليها وذراها، حتى ثبتت أصولها، وتفرعت فروعها، وخرجت ثمارها؛ فهو بأماكن كل نوع منها عارف وفهم، عالم غير جاهل، فكلما سئل عن شجرة، أو طلب منه من ثمارها ثمرة، قصد لموضع تلك الشجرة، فأخذ ما يحتاج إليه من ثمرها، فأسرع به إلى طالبها، ولم يحتج لمعرفته بموضع حاجته إلى الدوران في جوانب(1/672)

134 / 172
ع
En
A+
A-