والسنة فهي الأحكام المبينة، والفرائض المفصلة، فهي لله سبحانه ومنه، لا من رسول الله صلوات الله عليه وآله ولا عنه، وليس له فيها فعل غير التبيلغ والأداء والنصيحة والإبلاء، والسنة فهي سنة الله عز وجل، وإنما نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مجاز الكلام، إذ هو المبلغ لها والآتي عن الله سبحانه بها، كما يقال للقرآن كتاب محمد، وكما يقال للإنجيل كتاب عيسى، وكما يقال للتوراة كتاب موسى، قال الله سبحانه في ذلك وما كان من الأمر كذلك: ?وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إماما وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا?[الأحقاف: 12]، فسماه كتاب موسى ونسبه إليه، وإنما هو كتاب الله عز وجل الذي نزل على موسى، وكذلك مجرى السنة في قول القائل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد سنة الله، ومعنى سنة الله فهو فرض الله وحكمه وتبيانه لدينه وعزمه، قال الله جل جلاله:?سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ?[غافر: 85]، يريد سبحانه بقوله: ?سُنَّةَ اللَّهِ? أي: ذكر الله وفعله، وصنعه في خلقه وأمره.
ومن قال سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد بها غير ما ذكرنا من المعنى، أو توهم في ذلك أنه شيء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا من الله، فقد جهل أمر الله، وحرف معاني تأويل قول الله، ونسب البهتان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بأفحش القول في الله سبحانه وفيه.(1/658)
والسنة فلم تعارض الكتاب أبداً بإبطال لحكم من أحكامه، ولا أمر من أمره، ولا نهي من نهيه، ولا إزاحة شيءٍ من خبره، ولا رد شيء من منسوخه، ولا نسخ شيء من مثبته، ولا إحكام شيء من متشابهه، ولا تغيير شيء من محكمه، بل السنة محكمة لكل أمر الأحكام الموصلة، المبينة للمعاني المفصلة، مفرعة للمحكمات المتبينة عن التأويلات، يشهد لها محكم الكتاب وتنبي عنها جميع الأسباب أنها من الله رب الأرباب.
وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفروع التي جاءته عن الله عز وجل وتبارك وتعالى حتى يقال إنها من السنة فلم يشهد له الكتاب ولم يوجد فيه ذكرها مفصلاً أو مجملاً موصلاً ثابتاً فليس هو من الله، وما لم يكن من الله فلم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحكه عن الله فهو ضد السنة لا منها، وما لم يكن منها لم يجز في دين الله أن ينسب إليها.(1/659)
وآيات الكتاب هي الأمهات لشرائع سننه المفرعات، والأمهات فهي المحكمات، وإليهن ترد المفصلات، ومن الشواهد لما جاء من الروايات مما حكي من السنن المبينات وفي ذلك ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله.))، يريد صلى الله عليه وآله وسلم: أن ما وافق الكتاب مما روي عنه من الأحكام ومن شرائع الإسلام فإنه منه أخذ، وأنه جاء به عن الله، وما خالف الكتاب فليس من السنة التي جاء بها عن الله؛ لأن جميع الوحي الذي جاء عن الله سبحانه من السنة والقرآن فهما شيئان متشابهان متفقان، لا يتضادان أبداً ولا يفترقان. وليس ما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعل أو اختيار جاء به عن نفسه منسوباً إلى الله، ولا عنه ولا مشابهاً لشيء من أحكام السنن، بل قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى رأياً وفعل فعلاً مما ليس هو فيه مخالف لسنة ولا لكتاب بين ذلك عن نفسه، وأخبر أنه ليس من ربه، مثل ما كان منه صلوات الله عليه وآله في الجد الذي لقيه في الجحفة راجعاً من حجة الوداع، فقال: يا رسول الله إن ابن ابني مات فما لي من ماله؟
فقال عليه السلام: لك السدس.
فلما أن أبعد الشيخ رقّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورحمه لما بان له من ضعفه وقلة حيلته وكبر سنه، فرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لك السدس الآخر.
فلما أن مضى الشيخ وأبعد رده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثانية، فقال: إن السدس الثاني مني طعمة لك.(1/660)
فبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان منه وبين ما كان من الله، فلما أن قال: (( السدس الثاني طعمة مني ))، علمنا أن السدس الأول حكم من الله، فبين صلى الله عليه وآله وسلم فعله من فعل الله عز وجل؛ لأن لا يقع على الأمة تخليط في دين الله، ولأن يبين لها أحكام ربها وفعله، لكيلا يكون لها عليه في شيء من الدين حجة. وكذلك كان عليه السلام يفعل في كل ما كان منه من تأديب أمته، وأفعاله فيها وسياسته لها، يبين فعله من فعل الله، ويخبر بما جاء به عن الله.
وكذلك ما كان من فعله وكراهيته من حمل الحمير على الخيل، وذلك قوله لعلي رحمة الله وصلواته عليهما حين قال: مما تكون هذه البغال؟
فقال: يحمل الحمار على الفرس، فيخرج من بينهما بغل.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون.
أو قال: الذين لا يعقلون. فكره صلى الله عليه وآله وسلم أن تحمل الأشكال إلا على أشكالها، أو أن تخلى الفحول إلا على أمثالها، فكان هذا منه كراهية واختياراً، ولم يكن هذا شيئاً مما أتاه من الواحد الجبار.(1/661)
ومثل هذا مما كان من رأيه وفعله ولم يأته في كتاب الله ولا في سنته مما كان يستحبه ويفعله من نوافل صلاته، وتعبده من بعد الفرائض المفروضات، لما كان يتعبد من النوافل المعروفات، اللواتي كن منه اختياراً وعبادة، يطلب بذلك من الله الفضيلة والزيادة، كان ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم استحساناً لنفسه، ولم يكن فرضاً من الله لا يسع تركه، ولا يجب على من تركه الكفر بربه، لأن بين الفرض وغيره من النوافل فرقاً بيناً، وفضلاً نيراً، فكثير يعلمه العلماء، ويفهمه الفهماء، ليس بلازم واجب على المتعبدين؛ إذ لم يكن فريضة من الله رب العالمين، إن أخذ به آخذ فقد أخذ بركة ويمناً، واتبع فضلاً ورشداً، وإن تركه تارك من غير زهد فيه، ولا قلة معرفة بفضله، ولا استخفاف لحق فاعله، ولا اطراحاً لرأي صانعه، ولا مضادة له في فعله، لم يكن بتركه له في دين الله فاجراً، ولا بعهد رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم غادراً.
فافهم هديت ما به في السنة قلنا، وأحسن الفكر والتمييز فيما منهما شرحنا، تبن بذلك إن شاء الله من الجهال، وتبعد بمعرفته من اسم الضلال، وتسلم بحول الله من قول المحال، والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين وسلم كثيراً.
تم كتاب السنة ولله المنة(1/662)