السنة التي لا يأثم مخالفها
ثم نقول إن كلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه حرام لا يجوز تحليله، أو إنه حلال لا يجوز تحريمه، ومحظور لا يجوز اطلاقه، أو مطلق لا يجوز حظره، فإنه من الله لا منه، وإنه لم يفعل ذلك إلا بأمر الله، ولم يتعدّ فيه فرض الله تعالى وإن ذلك لازم للأمة، وإن لمن خالفه أو نقص بعضه العقاب والعذاب، وإن لمن أداه على وجهه وعبد الله بما تعبده به الثواب، فكل ما ذكرنا من ذلك من الحلال والحرام وشرائع الدين والأحكام فهي من الله حقاً حقاً. وليس حالها كحال غيرها مما جعله رسول الله عليه السلام من نفسه واختياره ورآه مما لم يجعل الله ولا رسوله على تاركه عقاباً، مثل ما سنّ من الوتر، وتقليم الأظافر، وحلق الشعر والسواك وتعفية اللحية وأخذ الشارب، وغير ذلك مما سن وفعل واختار لنفسه من زيادات العبادة والصلاة، مثل ما كان يصلي ويلزم ويحب من ركعات كان يصليهن فيما سوى الفريضة، ومثل ما كان يرى من التعزيرات، ويفعله عند النازلات، وما كان يكون منه من التأديب لأمته على ما يكون من خطا أفعالها؛ لأن الخطأ من أفعال الأمة على أربعة وجوه:
فوجه: يجب لله فيه حد، وهو ما جعل فيه سبحانه حداً في كتاب الله وسماه، مثل ضرب الزانيين، وقطع السارقين، وحد القاذفين، وما أشبه ذلك مما جاء في الكتاب حده مبيناً.
والوجه الثاني: فما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحده له وأمره به، من أدب من ارتكب شيئاً محرماً مثل حد الخمر المحرمة في الكتاب، نزل بالحد فيها وفسره كما فسر غيره من الفروع جبريل لمحمد عليه السلام.(1/653)


والوجه الثالث: فخطأ من أفعال العباد يجب للنبي عليه السلام فيه الأدب على فاعله، وهو مثل رجل لو ضم امرأة إليه، أو قبلها، أو نظر إلى شعرها أو بشرها، فلرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاختيار في أدبه وتعزيره، على قدر ما كان من فعله وجرأته، يقل الأدب أو يكثر على قدر ما يرى من بلوغ الأدب، وجزع المؤدَب، وكذلك الأئمة لها في ذلك الاختيار تعزر بما رأت يقل الأدب أو يكثر على قدر ما ترى من عظم الجرم وصغره، وبلوغ الأدب في المؤدب واحتماله للأدب، عليها فرض أن تعمل النظر في ذلك، وتتحرى التنكيل للمؤدبين قل الضرب في ذلك أو كثر، تطلب بلوغ جزع المؤدب، والإبلاغ منه بما ترى فيه من الصلاح له.
والوجه الرابع: فهو اللمم الذي ذكر الله، وهو فعل لا يجب فيه الحد لله ولا لرسوله، ولا للأئمة أدب. واللمم: فهو ما ألم به صاحبه من غير تعمد ولا اعتقاد، ولا هم ولا عزم، بمثل النظر عن غير تعمد، والمزاحمة للمرأة عن غير قصد، وما أشبه ذلك مما لم يتقدم له ذكر في ذلك على فاعله، ولم يقصد به اجتراء على خالقه، ولا تعمداً لإتيان معصية، ولا استحلال محرمة، فهذا معنى اللمم الذي ذكر الله سبحانه.
ومن الحجة على من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرع من ذاته شيئاً من الفرائض المحكمات، أو شرع من ذاته شيئاً من الأحكام المشروعات، أن يقال له: خبرنا عن فعل الله هل هو فعل نبيه، وعن فعل نبيه هل هو فعله؟ فمن أصل قوله إذا كان موحداً وبالله إذا كان عارفاً أن يقول: لا. ثم يقول: فعل الله خلاف فعل محمد، وفعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلاف فعل الله عز وجل.
فيقال له حينئذ: ألا ترى أن هذا الذي ذكرت أن محمداً فرعه وشرعه وفصله، وأمر العباد بفعله، هو فعل لمحمد؟
فإذا قال: نعم، قيل له: أفليس فعل محمد خلاف فعل الله؟(1/654)


فإذا قال نعم، قيل له: فمحمد إذا هو المفترض للفرائض على الأمة دون الله، إذ كان فعل محمد خلاف فعل الله، ومحمد إذا لو كان ذلك كذلك كان المعبود بأداء فرائضه دون الله، إذ الفرض من محمد لا من الله.
فلا يجد بداً، إن كان عارفاً وله موحداً، من أن يرد جميع ما تعبد به الأمة إلى الله عز وجل، ويزعم ويقول ويعتقد أنه من الله، حتى يصح له القول بأن المسلمين عبدوا الله لا غيره، ويثبت الفعل في فرض المفروضات لله لا لغير الله، لأن العبادة من العابدين لم تصح إلا بأداء الفرائض لمن افترضها، فمن ثبتت له الشرائع والتفريع والتبيين ثبت له الفرائض، ومن ثبت له الافتراض للمفروضات ثبتت له العبادة في كل الحالات من العابدين وهم المؤدون للفرائض المحكمة، والشرائع المثبتة التي لا تصح لهم عبادة إلا بأدائها، ولا ديانة إلا بإقامتها، فهذه حجة على من عرف الله بالغة كاملة بينة نيرة تبين لمن أفكر فيها، وتصح لمن تدبر معانيها، والحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.(1/655)


ومن الحجة على من قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يقول المبطلون: من أنه لو فرع الفروع من نفسه، وأوجبها على الأمة دون ربه، لكان المتعبد لنفسه بالفرض الذي أوجبه عليها وفرعه لها، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أول العابدين، وأخلص المخلصين، وأقوم القائمين بهذه الفرائض المفروضات، والفروع المفرعات، فهو قائم بها عابد لمن فرضها بإقامته لحدودها، فالفارض لها هو المعبود دون غيره، فتبارك الله رب العالمين، الذي فرض فرائضه على جميع المربوبين الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وجميع الثقلين. وفي تبري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التكلف لشيء من فروع أحكام الله عز وجل وفرضه، وما جعل من برهانه ودينه، ما يقول الله تبارك وتعالى:?وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي?[الأعراف: 203].
فإن قال قائل: ما معنى قول من يقول: سنة، وما معنى دعاء من دعا إلى الكتاب والسنة؟
قيل له: معنى الدعاء إلى ذلك هو الدعاء إلى الأصول الموصلة، والجمل المجملة، والآيات المنزلة، وإلى الفروع المفرعة، والأحكام المحكمة، والشرائع المبينة، والطاعات المفترضة.(1/656)


والكتاب فهو جزء من وحي الله وأحكامه، وسنته جزء آخر من وحي الله وتبيانه، فسمي الوحي الذي فيه أصول المحكمات من الأمهات المنزلات قرآناً، لأنه جعل للأصول إماماً وقواماً، وللفروع المفرعات أصولاً وتبياناً، وسمي الجزء الثاني من وحي الله عز وجل وفرائضه سنة وبرهاناً، فكان ما يتلى في آناء الليل والنهار أحق بأن يسمى قرآناً، لما فيه من واجب التلاوات، وما يتعبد به المتعبدون من الدراسات، وكان ما فسر به المجملات مما بين به المتشابهات من الفروع المبينات أولى بأسماء السنة في الباين من اللغات؛ لأن معنى السنة هو التبيين للموجبات للحجة، لقول العرب سن فلان سنة، تريد بيّن أمراً وشرع خيراً، وجعل شيئاً يستن به فيه، ومعنى يستن به أن يقتدى به فيه ويحتذى. وكذلك وعلى ذلك يخرج معنى قول القائل سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، يريد أظهر وبين ما جاء به من عند الله.(1/657)

131 / 172
ع
En
A+
A-