وكذلك جميع الفرائض والمواريث، ففسر منها في كتابه ما فسر، وفسر على لسان نبيئه باقي ذلك، وكذلك في جميع أحكام الحلال والحرام. فكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه حلال لا يجوز تحريمه، أو قال إنه حرام لا يجوز تحليله. وكل ما أوقف الأمة عليه، وجعله فرضاً عليها مفروضاً لم يجز لها تعديه، ولم يطلق لها النقصان، ولا الزيادة فيه، فهو من الله سبحانه لا منه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يزد رسول الله عليه السلام فيما أمر به، ولم ينقص منه، بل أدى الأمانة والنصيحة فيه صلوات الله وبركاته عليه وعلى آله.
فمن قال: إن شيئاً من هذه المحظورات من المحرمات والمحللات كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة ابتدعها لم تُبيِّن، ولم تَشرح، فقد جهّل رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجهَّل في قوله بذلك الله عز وجل سبحانه عن ذلك وتعالى علواً كبيراً أن يكون كذلك، أو أن يكل نبيه عليه السلام إلى نفسه، أو يجعل إليه شيئاً من فرض دينه حتى يفرضه دونه.
ومعنى قول القائل سنَّهُ: فإنما هو بينه وأظهره وذكره عن الله وشرعه، وبينه عنه سبحانه وأعلنه، لا أنه اقترحه ولا اخترعه.(1/648)
ومن الحجة في ذلك أن يقال لمن قال أو ظن هذا القبيح من الظن: خبرنا عن دين الإسلام وأحكامه، وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من نوره وبرهانه، وما اختار فيه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم هل كان عند الله معلوماً، ومن قبل خلق الدنيا في علمه تبارك وتعالى مفهوماً، لا يزول عنه منه صغير، ولا يغيب عنه طول الدهر منه كبير؟ فلا تجد بداً من أن تقول: نعم، قد كان دين الإسلام وشرائعه وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من فروضه وحدوده عند الله سبحانه معلوماً، لم تزد بعثة محمد ولا إيجاده في حدود الإسلام وما علمه الله من فرائض دين محمد عليه السلام شيئاً، بل جاءت وكانت وافترضت وبانت بعد بعثة محمد على الأصل الذي كان عند الله معلوماً، الذي اختاره على الأديان كلها لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته؟
فيقال له عند إتيانه بما ذكرنا وتبينه لما قلنا وشرحنا: أيها المناظر إذا كان عندك هذا القول على ما قلت، فمن أين علم محمد صلى الله عليه وآله وسلم جميع ذلك حتى استخرج مكنون علم الله القديم وشرائع دين الله الكريم، حتى أتى بها على ما كانت، وبيَّنها على ما فرضت، وأقامها على ما حددت من قبل إيجاده وخلقه، وكينونته وبعثته؟
فإن قال: استخرجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعقله، واستدل عليها بلبِّه.
قيل له: سبحان الله ما أجهل هذا المقال، وأفحش هذا الفعال! وكيف يستدل بعقل على علم غيب عند الله مكتوم، هذا ما لا يكون أبداً، إذ المخلوقون لايعلمون غيباً، ولايفهمون مما استسر به سراً.
وإن قال: علمه بتوفيق الله.(1/649)
قيل له: ليس هذا مما يلزمه التوفيق، ولا يجوز عليه فيه طرف من التحقيق، لما فيه من عظيم فروض الله، وجليل صنع الله وأمره ونهيه وزجره وفعله وما أوجب به وفيه وعليه من الثواب للمطيعين، والعقاب على العاصين. وإنما يكون من الله التوفيق في غير المفروضات من الأمور، فأما شرائع الدين، وما تعبد به المسلمين فلا يكون إلا بتبليغ الرسل، والاحتجاج بذلك على جميع الملل، فلا تجد بداً من الإقرار بالحق، والتعلق بعلائق الصدق، والرجوع إلى قول المؤمنين، أو أن يثبت على باطله من بعد إثبات الحجة عليه في مذهبه، فيكون عند نفسه وعند غيره مكابراً، وللحجج البالغة مناصباً، ولا يجوز له في دينه احتجاج ولا بيان، ولا يجد على الباطل بحمد الله عوناً ولا برهان.
فإذا بان له خطأ هذين المعنيين، وفساد هذين الوجهين، لم يجد بداً من أن يقول بقولنا، فيزعم أن جميع ذلك من الله سبحانه وحي أوحاه إلى نبيه على لسان ملكه كما أوحى القرآن على لسانه، ولعمري ما سبيل أصول الأحكام، وما تعبد الله به أمة محمد عليه السلام إلا كفرعها، ولا فروعها إلا كأصولها، وما أصولها وإن جاءت في الكتاب مجملة بأوكد فرضاً من فروعها المتفرعة، وما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى علم مجملها بأحوج منه إلى علم فروعها؛ لأن الفروع هي العمل، والعمل فهو الإيمان؛ لأن الإيمان كما قال أمير المؤمنين: ((قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول))، والفروع فهي أصول الأعمال، وأصول الإيمان، وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن سبيلها عند الله كسبيل ما أجمل الله في القرآن، لا تختلف معنى الفروع والأصول إلا عند من سلب العقول.(1/650)
ومن الحجة على ما به قلنا من أن الله سبحانه نزل الفروع على نبينا كما نزل الأصول في كتابنا قول الله سبحانه:?مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?[الشورى: 52]، فأخبره أنه لم يكن يدري ما هذا الكتاب المجمل، ولا هذه الفروع التي هي الإيمان المنزل. وفي ذلك ما يقول:?وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى?[الضحى: 7] يريد تبارك وتعالى ضالاً عن شرائع الدين، وفروع ما أجمل في القرآن المبين، فلم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يدري كم يصلي الظهر، ولا كم عدد العصر، ولا كم يأخذ من أموال الناس المسلمين من الزكاة، ولا كم فرض الله عز وجل فيها، ولا متى تجب، ولا في كم تجب، بل كان ضالاً عن ذلك كله، وضلاله عنه فهو جهله به وقلة معرفته بما يريد الله أن يفترض عليه، فلم يكن عليه السلام يعلم من ذلك إلا ما علمه، ولم يفرض على الأمة إلا ما به أمر، ولم يكن من المتكلفين، ولا من غير ما أمر به من المتكلفين.
ومن الحجة في ذلك: أنه لو كان كما يقول الجاهلون، ويتكلم به الضالون، من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرع هذه الفروع من نفسه، وأوجدها وبينها من دون ربه، لكان محمد عليه السلام المفترض لجميع هذه الفرائض والأحكام على جميع الأنام، دون الله الواحد ذي الجلال والإكرام، ولو كان صلوات الله عليه المفترض لذلك والمحدد له الجاعل على أمته لكان هو المتعبد لها بفرضه، المدخل لها في حكمه، المصرف لها في عبادته، دون الله، تبارك وتعالى عن ذلك، وحاشا لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون كذلك، لأن الأمة إنما عبدت الله بهذه الشرائع، وهذه الفروع، وبإقامة هذه الأحكام، وتحليل الحلال منها وتحريم الحرام.(1/651)
فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يقول الجاهلون من أهل هذا المقال هو المفرع لهذه الفروع، والناشر لها، والمتخير فيها، المحلل لحلالها، المحرم لحرامها، اختياراً منه بفعله وتمييزاً منه بلبِّه، وحتماً منه على أمته اختراعاً له دون ربه؛ لكان محمد مستعبداً للأمة بفرضه، وكانت الأمة عابدة محمداً دون ربه، إذ هي قائمة بفرائض محمد ساعية فيها، مقيمة لها، مستقيمة عليها، وفي هذا ومثله، وفي القول بيسيره أكفر الكفر بالله سبحانه، وأجهل الجهل به، وأكثر الطعن على رسوله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل القول في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفترض فريضة دون الله، ولم يحكم في دم ولا فرج إلا بالله، وأن الله سبحانه هو مؤصل الأصول، ومجمل المجمل، ومفصل المفصل، ومفرع المفرعات، ومبين الملتبسات، المتولي لتعبد خلقه بما شاء سبحانه من فرضه، وأن نبيه صلوات الله عليه لم يزد ولم ينقص في شيء مما أمر بتبيينه للعباد، وأنه قد بلغ وأرشد غاية الإرشاد.(1/652)