ولا شرائع دينه إلا وقد أوحى به إلى رسوله وحياً، ونزل عليه به نوراً وهدى، فلم يكف هذه الأمة ما نزل الله فيما ذكرنا من الحجة حتى قالت: إن كل فرع مفرع مما فرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو منه اختياراً وتمييزاً من نفسه، وإن ذلك ليس هو من ربه، من ذلك ما قال الله سبحانه في الصلاة الموجبة، والزكاة المفترضة، حين يقول: ?أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ?[المجادلة: 13] فزعمت هذه الأمة فيما ذكرت، وبه على الله سبحانه اجترأت، أو من قال بذلك منها، أنه لم يكن من الله جل جلاله، وعظم عن كل شأن شأنه في الصلاة غير ما أمر به من إقامتها، وأنه لم يحد لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من حدودها، ولم يوقفه على ما به كمالها من ركوعها وسجودها وعدد ركعاتها، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اخترع ذلك من نفسه، وسنه لأمته، وجعله ديناً لها من ذاته، وأن شرائع الزكوات وما به تجب الزكوات في الأوقات المفروضات الموقتات، وما يؤخذ من الأموال الصامتة، والأنعام السائمة، والأطعمات، وما يجب في التجارات من الأعشار وأنصافها، وما حدد في ذلك كله من الحدود المعروفة، وأوقف عليه في كل ذلك من الأفعال المفهومة، من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا من الله، وأن ذلك شيء فعله برأيه، واختاره بتمييزه، وفعله باجتهاده، وفرضه على أمته دون خالق المخلوقين وإله العالمين، وكذلك قالوا في جميع الفرائض المفروضة والفروع المتفرعة، فزعمت هذه الأمة، أو من قال بذلك منها، أن ما كان في الكتاب ناطقاً موصولاً فهو من الله فرض مفترض، وما كان من تفريع الأصول وتمييز ما ميز صلى الله عليه وآله وسلم من الفصول فإنه منه لا من الله، وأنه فعله لا فعل الله، ثم سموا ذلك الفرع سنة، وأخرجوا معنى السنة من الفريضة، وتوهموا أن ذلك كما قالوا، ولم يعلموا ما عليهم في ذلك حتى حكموا به وسموه كذلك، فلما عظم الأمر، وجل الخطر، ورأينا الهلكة واقعة(1/643)


بهم، والضلالة شاملة لهم، رأينا أن نفسر معنى قول القائل سنة، ونشرح ما السنة، وكيف كان تفريع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فرع من الأصول المنزلة التي جاءت في كتاب الله سبحانه مجملة، فقلنا:
إن رسول الله عليه السلام لم يكن ليخترع أمراً دون الله سبحانه، وأنه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم حين يقول: ?إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ?[الأعراف: 203]، وكما قال عليه السلام حين يقول: ?وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ?[ص: 86]، ونقول إن الله سبحانه لم يكل شيئاً من ذلك إلى نبيه يبتدعه ولا يشرعه ولا يفرضه ولا يثبته؛ إذا لقد كلفه الله شططاً من أمره، وألزمه معوزاً من فعله، بل القول في ذلك المبين، والحق البين اليقين أن الله سبحانه، وجل عن كل شأن شأنه، أصل أصول فرائضه في الكتاب المبين، ونزله على خاتم النبيين، فجعل في كتابه أصول كلما افترضه من الدين، وبينه لجميع العالمين، فكانت أصول الدين في الكتاب كلها، وجاءت الفصول مفصولة والفروع المفرعة إلى النبي عليه السلام من الله ذي الجلال والإكرام على لسان الملك الكريم جبريل الروح الأمين، فنزل بشرائع الدين وتفريع أصول القرآن المبين على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما نزل عليه السلام بالأصول إليه، وكان نزوله بالفروع مفرعة، كنزوله بالأصول المجملة المجتمعة، وأدى جبريل الروح الأمين إلى محمد خاتم النبيئين فروع شرائع الدين، عن الله رب العالمين، كما أدى مجملات أصول القرآن المبين.(1/644)


والسبب في تفريق ذلك من الله، فنظرٌ من الله لبريته، وعائدة على خلقه، ولطف في فعله وصنعه، وتقوية لمن أراد حفظ كتابه، وحمل ما نزل من وحيه وبيانه، فخفف عنهم في الكتاب، وأعانهم بذلك في كل الأسباب، ففرق بين الأصول الموصولة والفروع المفرعة، فجعل الأصول في الكتاب مجملة جاء بها جبريل، وجعل الفروع في غير الكتاب جاء بها أيضاً جبريل، فكلٌ من الله وحي مبين، وتفصيل وفرض منه سبحانه وتنزيل، بعث بهما كليهما رسولاً واحداً، ملكاً عند الله مقرباً أميناً مؤتمناً، فأدى إلى الرسول عليه السلام ما به أرسل إليه، وتلى عليه من ذلك ما أمر بتلاوته عليه، فكان ذلك من الله فرضاً مميزاً، وديناً من الله مفترضاً لم يكن لرسوله فيه اختيار، ولم يشرع لأمته من دين الله إلا ما شرع الله، ولم يأمرها إلا بما أمرها الله، ولم ينهها إلا عمَّا نهاها الله.(1/645)


ذكر تفاصيل من الصلاة والزكاة
من ذلك ما قلنا به من قول الله ?أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ?، فنزلت هاتان اللفظتان في القرآن موصولتين، وجاءتا فيه مجملتين، فاحتملت الصلاة أن تُصلّى قليلاً وكثيراً إذ جاء ذلك مجملاً، ثم فسر الله ذلك على لسان جبريل كما نزل على لسانه القرآن الجليل، فجعل الله الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعتمة أربعاً، والصبح اثنتين، فبيّن لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير ما جاء في كتابه مجملاً من أمره بالصلاة جزماً، ولم يكله إلى أن يتكمه في ذلك تكمهاً، ولا أن يتخبط فيه صلى الله عليه وآله وسلم تخبطاً. وكذلك لما أن قال سبحانه ?وَآتُوا الزَّكَاةَ?، احتمل أن تؤخذ من كل دينار ودرهم، وشاة وجمل، ومد ومكوك، ومن الفقير والغني، ومالك ألف شاة ومستغل ألف مد، ومستغل مد وصاحب ألف دينار، وصاحب دينار لأنه سبحانه يقول:?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا?[التوبة: 103] ولم يفسر فيمَا أنزل من القرآن كم يأخذ من كل إنسان مالك الحقير والقليل، ومالك الكثير والجليل، ثم فسر سبحانه على لسان الملك الذي نزل بالقرآن من عند الواحد الرحمن ما يجب من الأموال، وما يؤخذ من أهلها في كل حال، وما يجب على المالك المؤسر، وفي كم تسقط عن المالك المعسر، وكم هي وكيف هي، حتى سنن أسنان مواشيها، فجعلها سنا سناً في عدد معروف معلوم، وكذلك فيما يكال ويوزن من الوزن والكيل المفهوم.(1/646)


ذكر تفاصيل الدية
وكذلك قال تبارك وتعالى في الديات فقال:?الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[البقرة: 178]، وقال سبحانه:?فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ?[البقرة: 178]، فقال: ?عُفِيَ?، يريد: عفي عن القتل إلى الدية، ثم أمر بأداء الدية إلى من عفى إذا قبل الدية وأرادها، ثم قال سبحانه في موضع آخر:?فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ?[النساء: 92] في قتل الخطأ، فأوجب الدية، وقال في موضع آخر: ?وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ?[المائدة: 45]، فجعل في جروح العمد القصاص كما جعل القود في قتل العمد، وجعل الديات في جروح الخطأ، فأنزل ذكر ذلك في الكتاب مجملاً، ولم يجعله مشروحاً مفسراً، ثم بينه على لسان نبيه وفسره، وجعل الدية ألف مثقال في أهل الذهب، وعشرة آلاف درهم قفلة في أهل الدراهم، وجعلها ألفي شاة في أهل الغنم، وجعلها مائتي بقرة في أهل البقر، ومائة من الإبل في أهل الإبل، ثم سننها وبينها على لسان نبيه عليه السلام. ثم لم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء إلا البيان والأداء عن الله بإحسان.(1/647)

129 / 172
ع
En
A+
A-