كتاب تفسير معاني السنة
والرد على من زعم أنها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله علام الغيوب، البري من كل نصب ولغوب، الواحد العلي القدوس الأزلي، الذي رفع السماء فبناها، وسطح الأرض فطحاها، خالق المخلوقين، ورب المربوبين، وباعث الموتى، ومبتديء الأحياء، العالم بخفيات سرائر الغيوب، المطلع على غوامض سرائر القلوب، المتعالي عن القضاء بالفساد، المتقدس عن اتخاذ الصواحب والأولاد، الآمر لعباده بالرشاد، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الواحد الأحد العليم الخبير.(1/638)
أحمده على ما منَّ به فينا، وتفضل به سبحانه علينا من ولادة النبيئين، ووراثة علم المرسلين، ونشكره على ما خصنا به وجعلنا بفضله من أهل القيام بحجته، والدعاء لخلقه إلى ما افترضه عليهم وأوجبه إيجاباً موكداً فيهم، من الأمر بأمره، والنهي عن نهيه، والحكم بكتابه، والاتباع لدينه، والمجاهدة لمن جاهده، والمعاضدة لمن نصره، والمعاداة لأعدائه، والمولاة لأوليائه، والقيام بأكبر فروضه قدراً، وأعظمها لديه خطراً، وهو الجهاد في سبيله، والمباينة لمن عَنَد عن دينه، وفي ذلك ما يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ?إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[التوبة: 111]، ثم قال تبارك وتعالى فيما يذكر من تعظيم ما ذكرنا من الجهاد الكريم: ?لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا?[النساء: 95 - 96]، ثم قال سبحانه فيما أمر به عباده من النفير في سبيله، والإحياء لشرائع دينه: ?انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?[التوبة: 41]، ثم قال(1/639)
تخويفاً للقاعدين وإعذاراً وإنذاراً للمتربصين واحتجاجاً على المتخلفين عن واجب ما أوجب أحكم الحاكمين، وتبييناً لفضل المنابذين لمن نابذ شرائع الدين، وجهد في إبطال الحق اليقين، وكان ضداً مدافعاً للحق، وكهفاً وسنداً للفسق: ?إلا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[التوبة: 39].
ثم ذكر سبحانه فذم ذا التعللات وأهل التأويلات الباطلات، فأخبر أنه لا عذر لهم فيما به يعتذرون، ولا حجة لهم فيما فيه يتأولون من التعلق بالشبهات والتسبب لمنال الفكاهات، والتلذذ بمقارنة الأولاد والزوجات، وجمع الأموال من التجارات، فقال سبحانه تحذيراً لهم، وتنبيهاً عن وسنتهم، وتيقيظاً لهم من رقدتهم:?قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ?[التوبة: 24]، ثم سمى من كان كذلك أو ضرب لنفسه تأويلاً في ذلك فاسقين، وأوجب لهم ما أوجب للفاجرين من عذاب الجحيم، والخلود في العذاب الأليم، ثم قال سبحانه ترغيباً لعباده المؤمنين، وإخباراً لهم بما أعد لهم على الجهاد من الثواب المبين:?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ ئَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي(1/640)
جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ?[الصف: 10 -13]. صدق الله سبحانه إن ذلك للتجارة الكبرى، والكرامة الجليلة العظمى، والحظ العظيم، والأمر الجسيم، الذي جل ذكره، وعظم قدره، وحسن - عند الله مآب فاعله، وجل لديه سبحانه خطر القائم به. جعله له سبحانه مؤتمناً على خلقه، ومرشداً إلى أمره، خصه بخواص من الكرامة الكاملة، وأعطاه العطية الفاضلة، وجعله حجة شاملة، ونعمة على الخلائق دائمة، فنسأل الله إيزاع شكره، وبلوغ ما نؤمل من طاعته، فإن ذلك أفضل ما أعطى الخلق من العطاء، وأعظم ما بلغه بالغ من الرجاء.
ونسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وصفوته من بريته، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
ثم نقول، من بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم:(1/641)
أمَّا بعد، فإنا نظرنا في أمور هذه الأمة وأسبابها، وقلبنا ما قلبنا من حالها وأخبارها، وافتراق أقاويلها، وفساد تأويلها، وقلة ائتلافها، فوجدنا أمورها تدل على أنها ضيعت ما به أمرت، حتى صعب قيادها، وكثر حيادها، وقل فهمها، وكثر تخليطها، وصار لكلها قول مقول، و عمل فادح معمول، ينفر منه القلب الجهول، فضلاً عن أهل المعرفة والعقول. كان من أنكرِ قولِها وأعظمِ جهلها ما قالت به في الله سبحانه، فرمت به لجهلها رسوله، فزعمت لعظيم غفلتها وعامر رقدتها أن دينها الذي به تعبدها ربها كتاب ناطق مضى، وسنة جاء بها من نفسه النبيء، شرعها من ذاته، وتخيرها للعباد بنظره، لم يأمر بها الرحمن، ولم تنزل عليه في آي القرآن، فزعمت بذلك من قولها، فلزمها في أصل مذهبها وحاق بها في جميع قولها أنها زعمت فيما ذكرت وقالت: إن الله وكل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدين إلى نفسه، ولم يشرع له كلما يحتاج إليه من فرضه، كأن لم يسمعوا الله سبحانه يقول فيما نزل على نبيه من القول: ?مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ?[الأنعام: 38]، ويقول سبحانه: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ?[النحل: 89]، وكأن لم يسمعوا قوله: ?أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?[العنكبوت: 51]، فأخبر سبحانه بقوله: ?أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ?، أن فيما نزل من تبيانه ونوره وبرهانه كفاية لهم، في كل ما افترض عليهم، ولو كان ترك شيئاً مما يحتاجون إليه لم ينزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن وعلى لسان جبريل، لم يقل: ?أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ?، فدل بما شهد به من الكفاية لهم على أنه لم يكل نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى استخراج شيء مما افترض عليهم وعليه، وأنه لم يترك شيئاً من فرائضه،(1/642)