ما يلزم القائل بذهاب بعض القرآن
ومن قال بذهاب بعض القرآن دخل عليه بقوله الفساد في أمره ودينه، حتى لا تقوم له حجة، ولا تثبت له بينة؛ وذلك أنه لو قال له قائل: (أنت أيها المناظر تزعم أن القرآن قد ذهب منه بعضه، لا بل تقول ذهب أكثره وأنت تعلم أن القرآن ناسخ ومنسوخ، وأمر ونهي، وخبر، وهذه الفرائض التي في هذه البقية التي بزعمك بقيت في أيدي الناس فهي منسوخه كلها، ليست بمبينة الحكم، والمبينة للحكم فهي ما نسخها مما قد ضل وذهب.)، لقطعه، وأفسد ما في يده من قوله: (القرآن قد ذهب بعضه)، واضطره إلى أن يبطل ما في القرآن من هذه الأحكام المعروفة عند جميع أهل الإسلام، أو يرجع إلى الحق، ويقول في القرآن بالصدق، ويقر أنه هو بعينه لم يذهب منه شيء، وأنه محفوظ ممنوع من كل غي. وإنما ألزمناه ذلك؛ لأنه يزعم أن بعض القرآن قد ذهب، ومن قال بذلك لم يدر أهذه الفرائض التي في الكتاب الذي في أيدي المسلمين منسوخة أم ناسخة، وأن من لم يعلم ذلك علما يقيناً لم يجب عليه الإقرار بما لا يوقنه، فضلا عن العمل به.(1/633)
بل لو كابره مكابر مخالف فقال له: (عندي ما ذهب من القرآن، وأنا أقيم عليه وأقيمه، وهو ناسخ لكل ما في هذه البقية، فأنا لا أقيم هذه الأحكام التي قد نسخت، وأقيم الأحكام التي نسخَتْها، وأعبد الله سبحانه بالفرائض التي ذهبت من هذا القرآن، الناسخة لهذه البقية في أيدي الناس، وأنا بذلك عالم؛ لأنه عندي وفي يدي)، ثم ذكر وادعى أن الفرض في الصيام هو صيام رجب، وأن صوم رمضان منسوخ، كما نسخ غيره من الصلاة إلى بيت المقدس وغير ذلك من الأحكام، وقال: أنا لا أصلي الصلاة في أوقاتها التي سميت في هذه البقية؛ لأن هذه التي معك منسوخة، نسختها الأحكام التي ضلت وذهبت. وقال: إنه لا يُجلد الزاني، ولكن تُقطع يده، ولا يُقطع السارق ولكن يُجلد مائة جلدة. وادعى أن هذا الحكم مثبت فيما ذهب من القرآن، وأنه قد فهم ذلك منه وعلمه، وقال: إن حكم السارق والزاني في هذه البقية التي تزعم أنها بقيت في أيدي الناس منسوخ، نسخه ما جهل من القرآن وذهب، فأنا أعمل بالناسخ، وأترك المنسوخ. وكذلك يعارضه في كل فرايض القرآن. فإذا عارضه معارض بهذا القول لم يكن له بدٌ أن يدفعه بها، صغرت أو كبرت؛ لأنه قد أجابه، وأجمع معه على أن القرآن قد ذهب بعضه، بل عامته في زعمه، ولو كان القرآن كذلك، لكان الناس كلهم قادرين على ادعاء ما أحبوا أن يدعوا من ذلك، ولبطلت فرائض الله وحدوده، ولم يقم لله حد على عباده؛ لأن ما قال من ذلك - لو كان - يدرء الحد، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ادرءوا الحدود بالشبهات.)) وهذا القول الفاسد، المحال، الكاذب، المضل، الضال، فلو أجاب إليه المسلمون قائله، أو جاز أن يقول به المؤمنون، لوجب عليهم وعلى إمامهم أن يأتوا بناسخه ومنسوخه، وجميع ما ذهب منه، وإلا فلم يجب لهم على كل ذي حدٍ يد؛ لأن كل ذي حدٍ - وجب عليه في شيء أحدثه - يزعم ويدعي أن حكم الله بالأدب في ذلك منسوخ، ويقول إنه لا يحد بهذا الحد في هذا الجرم، وإن حده(1/634)
غير هذا الحد الذي في هذه البقية بزعم من يزعم أن القرآن ناقص، ويقول: هلموا ما ذهب منه فاتلوه، فإن لم تجدوا فيه ما ينسخ هذا فحدوني، وإن وجدتم فيه ما أدعي فخلوني. فتعالى الله عما يقول فيه المبطلون علواً كبيراً، والحمد لله رب العالمين كثيراً، الحافظ لكتابه، المانع له من كل خطأ وزلل أو ذهاب أو نقصان.(1/635)
حفظ الله لكتابه
وكيف يذهب من القرآن قليل أوكثير وهو حجج الواحد اللطيف الخبير، وفيه فرائضه على الخلق سبحانه، فقد حفظ ومنع من كل شان من الشان، فيا ويل من قال بنقصان الفرقان، أما سمع قول الواحد الرحمن: ?بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ?[البروج: 21 - 22]، فأخبر أن القرآن عنده محفوظ له جل جلاله، وفيه مايقول: ?وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت: 42]، ويقول سبحانه: ?إنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجرات: 9]، فأخبر أنه لِما نزل من الذكر حافظ. ولم يلفظ بغير الحفظ فيه لافظ إلا عم جاهل، وعن الرشد والحق زائل، ولقول الله مبطل معاند، ولِما ذكر الله من حفظه له جاحد، وفي ذلك ما حدثني أبي عن أبيه أنه قال: (( قرأت مصحف أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه عند عجوز مسنة من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فوجدته مكتوباً أجزاء بخطوط مختلفة، في أسفل جزء منها مكتوب وكتب علي بن أبي طالب، وفي أسفل آخر وكتب عمار بن ياسر، وفي آخر وكتب المقداد، وفي آخر وكتب سلمان الفارسي، وفي آخر وكتب أبو ذر الغفاري، كأنهم تعاونوا على كتابته. قال جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه: فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفًا حرفاً، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، غير أن مكان ?قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ?، ?اقْتُلواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ ?، وقرأت فيه المعوذتين.)).
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:(1/636)
ومن الحجة في حفظ القرآن، وإبطال ما يقال به من ذهابه وافتراقه، وزواله ونقصانه قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. )) ، فأخبر صلى الله عليه أن الله عز وجل نبأه بثباتهما وبأنهما حجة منه على خلقه باقية في أرضه إلى يوم حشر العالمين، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
تم ذلك.(1/637)