الرجل لا يستطيع الهجرة مخافة التلف
وسألته عن رجل ساكن في بلدة، وقد تولى أمر البلد سلطان ظالم، والسلطان يقتضي منه جباية من غير طيب من نفسه، وهو يخاف إن خرج من البلد على نفسه التلف؟
الجواب في ذلك: إن كانت مخافته على نفسه مخافة أن يجوع في الأرض أو يعرى، أو يتلف إذا خرج من تلك البلدة؛ فليس هذا له بعذر؛ لأن الله عز وجل يرزقه في بلده وغيرها. وإن كان يخاف أن يظفر به سلطان بلده فيقتله إن خرج، ولم يكن له حيلة في الانسلال عنه، وكان لا محالة واقعاً في يده إن خرج؛ فله في ذلك العذر إلى أن يأتيه الله عز وجل بفرج. وإن قدر وأمكنه أن لا يعمل عملاً يأخذ منه فيه السلطان فليفعل.(1/628)
تفسير قوله تعالى: ?تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء?
وسألته عن قول الله سبحانه: ?تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء?[آل عمران: 26]؟
والملك هاهنا الذي يؤتيه من يشاء فهو جبايات الدنيا وأموالها. والذين يشاء أن يؤتيه إياهم فهم الأنبياء ثم الأئمة من بعدهم. والذين يشاء أن ينزعه منهم فهم أعداؤه من جبابرة أرضه.
ومعنى ?تُؤْتِي الْمُلْكَ?: فهو الحكم بالملك لهم صلوات الله عليهم. فمن حكم الله له بالنبوة أو بالإمامة حكماً، وأوجب له الطاعة على الأمة باستحقاقه لذلك الموضع إيجاباً، فقد آتاه الملك؛ لأن الملك هو الأمر والنهي، والجبايات والأموال التي تقبض التي بها قوام العساكر، واتخاذ الخيل والرجال والسلاح من جميع أداة الملك. فمن أجاز الله له قبض جبايات الأرض وإقامة أحكامها وحدودها، وأوجب له الطاعة على أهلها فقد آتاه الملك حقاً. أولئك هم السابقون بالخيرات صلوات الله عليهم. ومن لم يحكم له بشيء من ذلك، ولم يجز له ولم يطلق يده، ولم يوجب له الطاعة على أحدٍ من خلقه، فقد نزع الله ملك أرضه منه، وأبعده عنه. أولئك أعداؤه وجبابرة أرضه، الحاكمون بغير حكمه، المغتصبون لما جعل سبحانه لأوليائه، المنفذين لما حكم به في خلقه وبلاده، أولئك يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً. فسبحان من لم يقض بشيء من ذلك لأعدائه، ولم يؤثر غير أوليائه. وفي نفي الحكم منه لشيء من ذلك لأعدائه ما يقول لنبيئه إبراهيم عليه السلام: ?لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ?[البقرة:124]، والعهد فهو العقد بالإمامة والحكم لهم بالطاعة. ومعنى: ?لاَ يَنَالُ عَهْدِي? فهو لا يبلغهم ولا يجيزهم.(1/629)
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( اللوح علم الله، وكرسيه علمه، اللوح علم الله الذي وسع كل شيء ما كان أو سيكون.)).
وله صلوات الله عليه:(1/630)
الرد على من زعم أن القرآن قد ذهب بعضه
بسم الله الرحمن الرحيم
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
يُسأل من قال: إن بعض القرآن قد ذهب؛ وأنكر أن يكون هذا القرآن الذي في أيدي الناس هو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعينه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فيقال له: خبرنا عن حجج الله سبحانه على عباده ما هي؟ وكم هي؟ فلا يجد بدًا أن يقول: هي الكتاب، والمرسلون، والعقول، والأئمة الهادون.
فإذا أقر بذلك، وكان الأمر عنده كذلك، قيل له: أليس في كل حجة لله فروض له مؤكدة لا بد من العمل بها واستعمالها؟
فإن قال: لا؛ كفر، وإن قال: نعم؛ قيل له: ما فرض كل واحدة منهن الذي لا بد من استعمالها به؟ وما معنى جعل الله لها؟
فإن كان جاهلاً جهل ذلك، وإن كان عالما أجاب في ذلك بالحجة والصواب، فقال: حجة العقول ركبت وجعلت لتدل على خالقها بما تستدركه من مجعولات جاعلها، وتميزه من فعل فاعلها، جعلت للإقرار بالله، والتمييز بين الأمور، ومعرفة الخيرات والشرور. والأنبياء فأرسلت تدعو إلى الله تنذر يوم التلاق، وتحتج على العباد للواحد الخلاق، وتبين لهم ما فيه يختلفون، وما إليه من العمل يدعون. والأئمة من بعد الرسل فجعلت لتدل على شرائع الأنبياء، وتحكم بالحق بين العباد، وتنفي من الأرض الغي والفساد. وأما الكتب ففيها فرائض الرحمن وحججه، وحلاله وحرامه، وتبيين ما أحل الله لعباده، وما حرم عليهم. وما أمرهم به، وما نهاهم عن فعله، وما وكد من أحكامه فيهم، وما أوجب في كل الأسباب عليهم، ?لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وإن اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?[الأنفال: 42].(1/631)
فإذا قال بذلك، قيل له: ويحك ما أغفلك، وأبين حيرتك، وأظهر جهلك، وأقل علمك بما تذكر من قولك، وتقول إن الكتب عندك على ما ذكرت وفسرت، وقد تعلم أن أعظم الكتب كتاب محمد عليه السلام، الذي جعله الله نوراً وهداً وتبياناً، ورحمة وشفاء فرض فيه الفروض، فأصل فيه الأصول، وبين به حلاله وحرامه، وفي ذلك ما يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ?مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ?[الأنعام: 38]، ويقول سبحانه:?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً?[النحل: 89]، ثم أمر رسوله باتباعه، والانقياد لما فيه، فقال: ?اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ?[الأنعام: 106]، ثم تقول بعد: (إنه قد ذهب بعضه، ولم يبق إلا أقله)، وهو دعائم الرحمن، وفيه ما يحتاج إليه من أمور الله في كل شان، فإن كان ذلك عندك كذلك، فقد ذهبت أكثر فرائض الله سبحانه، وعدمت حجته، فتركت، وعطلت، ورفضت، واستبدلت بنور الحق وبهجته حيرة الباطل وظلمته، فلا ذنب للعباد فيما جهلوا من الحق، وارتكبوا من الفساد، وتركوا من فرايض الله التي قد ذهبت مع ذهاب عامة كتابه، إذ هم عنها غافلون، ولها جاهلون، إذ لم يجدوها ولم يطلعوا عليها، ولم يعلموها.(1/632)