وكان لداود صلى الله عليه تسع وتسعون منكحاً من الحراير والإماء، وكان لأوريا هذه المرأة وحدها، فمثلا أنفسهما لداود بداود وأوريا. فقال أحدهما: ?إن هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا? - ومعنى اكفلنيها: فهو ابتعنيها، وزدنيها إلى نعاجي - ?وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ?، يقول: شطني في الطلب وألح في تمنيها وطلبها. وذلك أنها لم تكن تسقط من نفس داود من يوم رآها يتذكرها ويتمناها، فقال داود صلى الله عليه: ?قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وإن كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ?. فلما قال هذا لهما تغيبا من بين عينيه، فإذا به لا يبصرهما ولايراهما؛ فعلم عند ذلك الأمر كيف هو وأنهما ملكان، وأن الله بعثهما إليه لينهياه من غفلته، ويقطعان عنه بذلك ما في قلبه من كثرة تذكره امرأة صاحبه، فأيقن أنهما فتنة من الله، والفتنة هاهنا فهي المحنة.
ومعنى ظن داود: فهو أيقن داود بذلك من الله؛ فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب إليه من ذلك التمني والذكر لهذه المرأة،فلم يذكرها بعد ذلك اليوم، حتى زوجه الله إياها حين أراد تبارك وتعالى، من بعد أن اختار لأوريا الشهادة فاستشهد، وصارت إليه. فمن بعد ذلك زوج الله داود امرأة أوريا، وبلغه أمله وأعطاه في ذلك أمنيته، فجاءه ذلك وليس في قلبه لها ذكر، ولا إرادة ولا تمني. ولم يكن لداود صلى الله عليه في أوريا ولا قتله شيء مما يقول المبطلون من تقويمه في أول الحرب، ولا ما يذكرون من طلبه وتحيله في تلفه بوجه من الوجوه ولا معنى من المعاني. كذب العادلون بالله، وضل القائلون بالباطل في رسول الله صلى عليه وسلم فهذا تفسير الآية ومخرج معانيها.(1/618)


طلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام
وسألته عن قول إبراهيم صلوات الله عليه: ?رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي?[البقرة: 260].
قال إنما أراد بذلك صلى الله عليه أرني آية أزداد بها علماً وبصيرة، وأعرف سرعة الإجابة لي منك، حتى يثبت ذلك عندي، ويقر في قلبي معرفة من ذلك. فأمره الله سبحانه أن يأخذ أربعة من الطير، وأن يجعل على كل جبل منهن جزأً، ثم أمره أن يدعوهن ليريه من عجيب قدرته وشواهد حكمته ما يزداد به معرفة في دينه، ويثبت عنده علم ما يسأل عنه من آيات ربه، فأراه الله ذلك؛ فازداد بصيرة وإيقاناً، ومعرفة وبياناً.(1/619)


طلب موسى عليه الصلاة والسلام
وسألته عن قول موسى صلى الله عليه: ?رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ?[الأعراف: 143].
قال: معنى قوله ?أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ?: فهو أرني آية من عظيم آياتك، أنظر بها إلى قدرتك، وازداد بها بصيرة في عظمتك وقدرتك، فقال: ?لَن تَرَانِي?، يقول: لن تقدر على نظر شيء من عظيم الآيات التي لو رأيتها لِضعف جسمك، ولطف مركبك، ولأهلكتك ولما قدرت على النظر إليها لعجزك وضعف مركبك، ولكن انظر إلى هذا الجبل الذي هو أعظم منك خلقاً، وأكبر منك جسماً؛ فإن استقر مكانه إذا أريته بعض ما سألتني أن أريكه فسوف تراني، يقول: فسوف ترى ما سألت من عظيم الآية، ولن تقدر على ذلك أبداً، ولا تقوم له أصلاً. ?فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا?، معنى تجلى: أي أظهر آيته، وأبان قدرته جعله دكاً. ?وَخَرَّ موسَى صَعِقًا?، يقول: مغشياً ميتاً لما رأى من الهول العظيم الذي لا يقدر على رؤيته لعجزه وضعفه.
وإن كان الذي أظهره الله وأبانه وأتى به من لطيف آياته، فجاز أن يقول: تجلى ربه لها لما كان ذلك من فعله وتدبيره، وأمره وإرادته وهو كقوله: ?هَلْ يَنظُرُونَ إلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ?[البقرة: 210]، يقول: تأتيهم الآيات، وما يريد أن يحل بهم من العذاب والنقم والآفات.
وقوله: ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?[القيامة: 22 - 23]، فمعنى قوله ناضرة: يقول: نضرة مشرقة حسنة، وهذا معروف في اللغة والبيان؛ تقول العرب للرجل إذا أرادت له خيراً: نضر الله وجهك.
وقوله ?إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?: أي ناظرة لثوابه، وما يأتيهم من خيره وفوائده. ومن ذلك ما يقول العرب: قد نظر الله إلينا؛ وقد نظر الله إلي بني فلان؛ إذا أصابهم الخصب بعد الجدب، والرخاء بعد الشدة، وإنما أراد بذلك أن الله قد رحمهم، وأتاهم بالنعمة.(1/620)


فلما أفاق موسى صلى الله عليه قال: ?سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ?[الأعراف: 143]، يقول: لو ابتليتني وأريتني وأظهرت لي من بعض ما سألتك مما أهلكت به الجبال الراسية لما قام بها جسمي، ولأهلكتني بقليلها ولما احتمل ذلك لطيف خلقي، وضعف مركبي، أنظر إلى عظيم ما ذهبت به الجبال الراسية، فلك الحمد على ما صرفت عني من ذلك رحمة منك بي، وتفضلاً علي وزيادة وإحساناً إلي.
فهذا معنى قوله:?أَنظُرْ إِلَيْكَ?، لا ما ذهب إليه من جَهل، وزعم أن الله يُرى، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، كيف وهو يقول في كتابه: ?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الأنعام:103].(1/621)


آيات موسى التسع
وسألته عن قول الله سبحانه: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ?[الإسراء: 101] ما الآيات التي آتاه الله تعالى؟
فقال: العصى التي تلقف ما يأفكون.
ومنها اليد البيضاء، وهو قوله: ?وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ?[النمل: 12].
ومنها الكلام الذي سمعه من الشجرة.
ومنها الكلام الذي سمعه من النار.
قلت: وما سمع منها؟
قال: قول الله في كتابه: ?فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[طه: 11].
قلت: فما معنى قوله: ?أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ?[طه:11]؟
قال: أما قوله: ?مَن فِي النَّارِ?، فإنما أراد بذلك ما سمع من الكلام في النار. وأما قوله: ?وَمَنْ حَوْلَهَا?، فهو من حضر من الملائكة حول النار.
ومنها الحجر التي كان يحملها على حماره من مكان إلى مكان، وكانت حجراً ململمة لا صدع فيها، فكان إذا احتاج إلى الماء ضربها بالعصاء فانبجست بالعيون، ثم يدفنها فيخرج الماء من كل جانب منها، فإذا استغنى هو وأصحابه أخرجها، فرجعت على حالتها أولاً، ثم حملها معه.
ومنها البحر الذي ضربه بالعصا فانفلق حتى سار في وسطه هو وأصحابه بأمر الله سبحانه، حتى خرج آخر أصحابه، ودخل آخر أصحاب فرعون تباعاً لموسى وقومه، فأغرق الله فرعون وقومه، ونجى نبيه عليه السلام والمؤمنين.
ومنها طور سيناء.
وقد قيل والله أعلم: إن من الآيات التي أتاه الله الجراد والقمل والضفادع والدم. ولا ندري ما صحة ذلك، غير أن الصحيح ما ذكرت لك أولاً وهو بيّن نيّر.(1/622)

124 / 172
ع
En
A+
A-