ووثب العفريت الملعون على سريره عند ذلك، وهو ملكه، وكان يتكلم على شبه كلام سليمان عليه السلام، وهو من وراء حجاب لا يظهر، ولا يُرى له شخص، ودعى فلم يجبه إلا الإنس. ومضى سليمان باكياً نادماً على فعله، وجعل يتبع الصيادين على سواحل البحر يخدمهم ويعينهم وهم لا يعرفونه، ولا يعلمون أنه سليمان. فأقام على ذلك وقتاً اختلفت فيه الرواة، فقال بعضهم: أقام أربعين يوماً، وقال آخرون: بل مكث خمسين يوماً، وقال قوم: سبعين يوماً، وهو أكثر ما قيل فيه، فجعل يتبعهم، ويعمل معهم، ويعطونه في كل يوم حوتين، فيبيع أحدهما فيشتري به خبزاً، ويشوي الآخر فيأكله. فلما علم الله منه التوبة والرجوع، والإنابة والخضوع، أراد أن يرُدَّ عليه نعمته، فانصرف ذلك اليوم ومعه الحوتان اللذان عمل بهما يومه ذلك، فشق بطن أحدهما على ما كان يفعل، فإذا بالخاتم قد خرج من بطن الحوت، فعرف عند ذلك فأخذه وشكر الله وحمده على ما أولاه، ثم دعى الريح فأجابته، وكان قد أبعد من بلده فأمر الريح فاحتملته من ساعته إلى موضعه، وهرب اللعين العفريت لما رآه.
وقال بعض الرواة: إنه كان حبسه ورد الله على نبيه ملكه، ورجع إليه ما كان الله قد أعطاه، فدعى الطير والريح والجن فأجابته ودامت نعمته.
قلت: فالجسد الذي ألقي على كرسيه، هل كان جسما يظهر ويرى؟
قال: لا إنما كان الذي يظهر إليهم منه ما يسمعون من كلامه، وكان مستتراً عنهم، فكانوا يظنون أنه سليمان، وإنما احتجب عنهم لسبب أمر أمره الله به، أو فعل فعله من نفسه، ولو ظهر لهم لبان أمره عندهم، ولكن تمكن منهم بالتمويه عليهم والمكر لهم.
قلت: فهل نال من الحرم منالاً أو وصل إليهم بسبب من الأسباب؟
قال: معاذ الله أن يكون نال شيئاً من ذلك أو فعله، غير الذي شرحته لك من كلامه فقط.(1/608)


قصة يونس عليه الصلاة والسلام
وسألته: عن قول الله سبحانه:?وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ?[الأنبياء: 87]؟
فقال: أما ذو النون فهو يونس، والنون: فهو الحوت. وأما قوله: ?إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا?[الأنبياء:87]، فإنما كان ذهابه غضباً على قومه، واستعجالاً منه دون أمر ربه، لا كما يقول الجهلة الكاذبون على أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم، من قولهم إن يونس خرج مغاضباً لربه. وليس يجوز ذلك على أنبياء الله صلوات الله عليهم، وإنما كان ذلك كما ذكرت لك من غضبه على قومه ومفارقته لهم، واستعجاله دون أمر ربه، وهو قوله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: ?وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ?[القلم: 48] - وهو يونس - يقول: لا تعجل كعجلته، واصبر لأمري وطاعتي، ولا تستعجل كاستعجاله. فهذا معنى قوله: ?إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا?[الأنبياء:87]، وهو قوله: ?فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ?[الأنبياء: 87] أراد بذلك من قوله: (فظن)، أي: أفظن أن لن نقدر عليه؟ وهذا على معنى الاستفهام، ولم يكن ظن ذلك صلى الله عليه، وهذا مما احتججنا به في الألِف التي تطرحها العرب وهي تحتاج إلى إثباتها، وتثبتها في موضع وإن لم تحتج إليها، مثل قوله: ?لا أُقْسِمُ? وإنما معناها: ألا أقسم، وقوله: ?وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ?[البقرة: 184]، فطرح الألف وهو يريدها، ومن ذلك قول الشاعر:
نزلتم منزل الأضياف منا .... فعجلنا القرى أن تشتمونا
وإنما أراد: ألاّ تشتمونا؛ فطرح الألف، ومثل هذا كثير في الكتاب، وهو حروف الصفات.
فلما صار يونس في السفينة وركب أهلها، واستقلت بهم وطابت الريح لهم، أرسل الله حوتاً فحبس السفينة، فعلم القوم عند احتباسها أنها لم تحبس بهم، إلا بأمر من الله قد نزل بهم، فتشاور القوم بينهم، وتراجعوا القول في أمرهم، وماقد نزل بهم وأشفقوا.(1/609)


فقال لهم يونس: يا قوم أنا صاحب المعصية، وبسببي حبست بكم السفينة، فإن أمكنكم أن تخرجوني إلى الساحل فافعلوا، وإن لم يمكنكم ذلك فالقوني في البحر وامضوا.
فقال بعضهم: هذا صاحبنا وقد لزمنا من صحبته ما يلزم الصاحب لصاحبه، وليس يشبهنا أن نلقيه في البحر فيتلف فيه على أيدينا ونسلم نحن، ولكن هلموا نستهم، فمن وقع عليه السهم ألقيناه في البحر.
فتساهم القوم، فوقع السهم على يونس، ثم أعادوا ثانية فوقع عليه، ثم أعادوا ثالثة فوقع السهم على يونس، فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت ومضى في البحر، وكان يونس صلى الله عليه ينظر إلى عجايب البحر من بطن الحوت، وجرت سفينة القوم بهم.(1/610)


قال: ولبث يونس صلى الله عليه في بطن الحوت ما شاء الله من ذلك، فاستمط شعره وجلده، حتى بقي لحمه، ومنع الله منه الموت، فلما علم الله توبته، وقد نادى بالتوبة: ?أَن لاَّ إِلَهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ?[الأنبياء: 87] فاستجاب له وتقبل توبته، ورحم فاقته. فأرسل ملكاً من الملائكة، فساق ذلك الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فألقى يونس من بطنه، وقد ذهب شعره وجلده، وذهبت قوته، فرد الله جسمه على ما كان عليه أولاً من تمام صورته، وحسن تقويمه، وأنبت الله له شجرة اليقطين، وهي الدباء فكان يأكلها. فلما اشتدت قوته، واطمأن من خوفه وإشفاقه، أرسله الله إلى قومه، وكانوا في ثلاث قرى، فمضى إلى أول قرية فدعاهم إلى الله وإلى دينه، فأجابه نصفهم أو أكثر من النصف، وعصاه الباقون، فسار بمن أطاعه إلى العصاة لأمره، فحملهم عليهم وقاتلهم، فقتلهم وأبادهم. وسار إلى القرية الثانية، فدعا أهلها وأعذر إليهم وأنذرهم، فأجابه منهم طائفة، فحمل المطيع على العاصي، فقتلهم وأبادهم. ثم سار إلى القرية الثالثة، وكانت أعظمها وأشدها بأساً ومنعة، فدعاهم إلى الله وأعذر إليهم وأنذر، وحذر ما حل بإخوانهم، فلم يجبه منهم أحد، واستعصموا على كفرهم، فسار إليهم وخرجوا إليه، فحاربهم فلم يقدر عليهم. فلما كان بعد وقت وعلم الله منه الصبر على ما أمره به من طاعته، والإعذار إلى خلقه، أمر الله جبريل صلوات الله عليه، فطرح بينهم ناراً، ثم أرسل الرياح فأذرت النار عليهم وعلى منازلهم ورحالهم، فأحرقتهم جميعاً ودمرتهم، فهذا ما سألت عنه من خبر يونس عليه السلام.(1/611)


قصة أيوب عليه الصلاة والسلام
وسألته: عن قول أيوب صلوات الله عليه: ?إذ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ?[ص: 41].
فقال: معنى قوله: ?مَسَّنِيَ?فهو ما كان من كلامه ووسوسته له، وذلك أن أيوب صلى الله عليه كان قد جعل ضيافة أضيافه إلى امرأته، فأتاه إبليس اللعين، فقال: يا أيوب إن امرأتك قد فضحتك اليوم في أضيافك. فأتاها فقال: ما الذي حملك على أن تفضحيني في أضيافي، أقسم لأضربنك مائة ضربة بالعصى.
فلما هم بالذي أقسم به من ضربها، أتاه الملعون إبليس، فقال: يا أيوب، سبحان الله! أيحل لك أن تضرب امرأة ضعيفة، لم تجرم جرماً ولم تأت قبيحاً، ولم تفعل أمراً تستحق به منك ضرباً، وليس لها قوة على ضربة واحدة، فكيف مائة ضربة، فلا تهلكها وتأثم بربك في أمرها.
فلما تركها وكف عنها، أتاه من موضع آخر، فقال: يا أيوب، سبحان الله! كيف يحل لك أن تقعد عنها وقد حلفت لتضربنها، ولا ترجع عن يمينك، وتأثم بالله ربك. فلما رجع إليها ليضربها أتاه بالوسوسة على مثل الذي أتاه أولاً؛ فلم يزل يفعل كذلك حتى دخله الغم، وعظم عليه الأمر؛ فانقلب على ظهره، وجعل يفكر وينظر، وخالطه من الوسوسة ما غلبه على أمره.
فلم يزل كذلك حتى تقرح ظهره، ولزمه المرض العظيم، واشتد به الأمر، وتمادت به العلة، وذهبت ماشيته، وافترق ماله، ومات أولاده، ومرضت المرأة من الغم والحزن.
فلما رأى ذلك من كان معه في المنزل أخرجوه صلى الله عليه إلى ناحية منه على خط الطريق، وليس يقدر أن يرفع يداً ولا رجلاً، واشتد به البلاء وهو مع ذلك صابر محتسب.
فلما كان يوم من الأيام مضى به نفر؛ فلما رأوه ونظروا إلى ما هو فيه من عظيم البلاء وشدة النتن، قالوا: والله لو كان هذا ولياً لله لأجابه ولكشف ضره، ولما أصابه شيء من هذا.(1/612)

122 / 172
ع
En
A+
A-