فمن نظر، فاعتدلت فطرته، وصفت طبيعته، وكان نظره بعين النصيحة لنفسه، قد مَلَّك عقله الحكم على هواه، وقيّد شهواته بأسار الذل تحت سلطان الحكمة، فأسلمه ذلك إلى مباشرة اليقين بربه، فاستلان ما استوعر منه المترفون، واستأنس إلى ما استوحش منه الجاهلون، وصحب الدنيا أيام حياته، وقلبه معلق بالمحل الأعلى، لا تعتريه سآمة ولا فتور من طلب ما أمّل من عيش مقيم، قد أيقن بالخَلَف فجاد بالعطية، دله الله فاستدل، وخاطبه ففهم عنه أحسن الإرشاد، طيبةً نَفْسُه بكل ما بذل في جنب الله، لأنه هجم على اليقين، وأنس بالتقوى، فضمنت له النجاة، وخرج من غمرات الشكوك إلى روح الاستيقان، فأقام الدنيا مقامها الذي أقامها الله [عليه]، واستهان بالعاجلة وآثر العاقبة، ومهَّد لطول المنقلب... ولن يعدم أن يكون في الخلق من قد استبهم عن الفهم، وولج في مضايق الحيرة، أعمى حيران يدعو إلى العمى ويقول: أعتزل البدع؛ وفيها اضطجع، ويقول: أجتنب الشبهات؛ وفيها وقع، متبع لآثار أوليه، مقتدٍ بآبائه، أكثر ما عنده تقليد أسلافه، وائتمان أكابره، والإنسان على ما جرت به تربيته، والإلف إلى ما سبق إلى اعتقاده، ضنين بفراق عادته، لم يتقسم التفتيش قلبه ولم يجتز في طرق البحث فكره، ولم تميّزه المناظرة، فلم يعتوره الاحتجاج، ولم يتنسم روائح اليقين، ولا نظر في العلل التي معرفتها نهاية الاستبصار، متوسد غمرة الاختلاف، وحيرة الفرقة، غفل عن تمييز الأمور؛ فهو عقيم القلب عن لقاح الهدى، ظمآن إلى مرشد يحسن تبصرته، ويريه الحق من وجوهه، وليس على اليقين مما اعتقد، والظن مستول على قلبه، والشبهة دواؤه، والحيرة ثمرته، نتاج إرادته كثرة الاختلاط. ولكل أمر سبب، والعلل كثيرة، والأسباب متفاوتة مجتمعة ومفترقة، لا يميزها إلا من وطي أوائل الأمور التي بها يهجم على معرفتها، ولكل شيء منها حدٌ متى تعدي سلّم متعديه إلى الهلكة؛ لأنه جزع الحدود المضروبة له.(1/57)


ذكر شروط النظر
فواجب على كل بالغ عاقل أن ينظر في نجاته، ولن ينتفع ناظر بنظره إلا بسلامة قلبه من الزيغ، وطهارته من الهوى، وبرأته من إلف العادة التي عليها جرى. والقصد بإرادته ونيته إلى العدل والنَّصَفة، وإعطائه كل أمر من الأمور بقسطه، والحكم عليه بقدره، وأخذ نفسه بالوظائف المؤدية له إلى النجاة، وحراسة قلبه من الأمور المسلِّمة له إلى الضلال، والحائلة بينه وبين حسن الاصطفاء، واختيار الصواب، وترك التقليد، ويكون طالباً لقيام الحجة لازماً لمنازل القرآن، متمسكاً به، مؤثراً له على ما سواه، ملتمساً للهدي فيه، فلن يعدم الهدى من قصد قصده، لأن الله جل ذكره ضمن لمن اتبع هداه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
فبمثل هذه الشروط يستنير البرهان، ويستشف الغامض من الصواب، ويستبين دقائق العلوم، ويهجم على مباشرة اليقين بربه، فيهتك الشكوك عن قلبه، يؤيد بنيته ويصعد في درجات اليقين بربه، أولئك أهل العقول الراجحة، والفطر الصحيحة، والآراء السليمة، وأولئك بقيه الله في خلقه، وخيرته من عباده، وخلصاؤه من بريته، وأوتاد أرضه، ومعادن دينه.
تم الكتاب(1/58)


كتاب فيه معرفة الله عزَّ وجلَّ
من العدل والتوحيد وتصديق الوعد والوعيد وإثبات النبوة والإمامة في النبي وآله عليهم السلام رواية الإمام المرتضى لدين الله عن أبيه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليهم أجمعين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ابن رسول الله صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وسلامه:(1/59)


التوحيد ونفي التشبيه
أول ما يجب على العبد أن يعلم أن الله واحد أحد، صمد فرد، ليس له شبيه ولا نظير، ولا عديل، ولا تدركه الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف، محويٌّ محاط به، له كُلٌّ وبعضٌ، وفوقٌ وتحت، ويمين وشمال، وأمامٌ وخلفٌ، وأن الله لا يوصف بشيء من ذلك، وهكذا قال لا شريك له: ?لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الأنعام:103]، وقال: ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:1ـ4]، والكفو فهو المِثل والنظير والشبيه، والله سبحانه ليس كمثله شيء، وقال: ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ?[الحديد:4]، وقال: ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]، وقال: ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا?[المجادلة:7]، وقال: ?وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ?[الأعراف:7]، يعني في جميع ذلك أن علمه محيط بهم، لا أنه داخل في شيء من الأشياء كدخول الشيء في الشيء، ولا خارج من الأشياء بائن عنها فيغبى عليه شيء من أمورهم، بل هو العالم بنفسه، وأنه عز وجل شيء لا كالأشياء؛ إذ الأشياء من خلقه وصنعه، وقال عز وجل: ?قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ?[الأنعام:19]، فذكر سبحانه أنه شيء؛ لإثبات الوجود ونفي العدم، والعدم لا شيء.(1/60)


العدل
ثم يَعْلَم أنَّه عز وجل عدل في جميع أفعاله، ناظر لخلقه، رحيم بعباده، لا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يسألهم ما لا يجدون، و?لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا?[النساء:40]، وأنه لم يخلق الكفر ولا الجور ولا الظلم، ولا يأمر بها، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يظلم العباد، ولا يأمر بالفحشاء، وذلك أنه من فعل شيئاً من ذلك، أو أراده أو رضي به، فليس بحكيم ولا رحيم، وإن الله لرؤوف رحيم، جواد كريم متفضل، وأنه لم يحل بينهم وبين الإيمان، بل أمرهم بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، وأبان لهم طريق الطاعة والمعصية، وهداهم النجدين، ومكنهم من العملين، ثم قال: ?فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ?[الكهف:29]، وقال: ?فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ?[الانشقاق:20]، وقال: ?وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ?[النساء:39]، أو يأمرهم بالكفر؛ ثم يقول: ?وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ?[آل عمران:101]؟ أو يصرفهم عن الإيمان، ثم يقول: ?فَأَنَّى تُصْرَفُونَ?[يونس:32]؟ أو يقضي عليهم بقتل الأنبياء صلى الله عليهم؛ ثم يقول: ?فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[البقرة:91]؟(1/61)

12 / 172
ع
En
A+
A-