رجل، وما كان منه في الوشل الذي ورده هو والمسلمون في غزوة تبوك، فوضع يده تحت الوشل، فوشل فيها من الماء ملؤها، ثم ضربه ودعا فيه، فانفجر بمثل عنق البعير ماءً، فشرب العسكر كله معاً، وتزودوا ما شاءوا من الماء، وغير ذلك مما يكره التطويل من معجزاته، أنه مفهوم معروف عند أهل العلم، فكانت هذه المعجزات مع ما ذكرنا من أسباب الاستحقاق من عَلَم النبؤة والدليل على نبوة الأنبياء وبعث الله لهم في البرية تبارك وتعالى.(1/593)
استحقاق الأوصياء وعَلَمهم
وكذلك الأوصياء، فلا تثبت للخلائق وصية الأنبياء إليهم إلا بالاستحقاق لذلك والعَلَم والدليل.
فأمَّا الاستحقاق منهم لذلك المقام الذي استوجبوا به من الله العَلَم والدليل فهو فضلهم على أهل دهرهم، وبيانهم عن جميع أهل ملتهم، بالعِلْم البارع والدين والورع والاجتهاد في أمر الله. وعلَمُهم ودليلهم فهو العِلْمُ بغامض علم الأنبياء، والاطلاع على خفي أسرار الرسل، وإحاطتهم بما خص الله به أنبياءه، حتى يوجد عندهم من ذلك ما لا يوجد عند غيرهم من أهل دهرهم، فيستدل بذلك على ما خصتهم به أنبياؤهم، وألقته إليهم من مكنون علمها، وعجايب فوايد ما أوحى الله به إليها، مما لايوجد أبداً عند غير الأوصياء. من ذلك ما كان يوجد عند وصي موسى، وعند وصي عيسى عليهما السلام ما لا يوجد عند غيرهم من أهل دهرهم. ومن ذلك ما وجد عند وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، من ذلك ما أجاب به في مسائل الجاثليق، ومن ذلك ما كان عنده من علم كتاب الجفر، وما كان عنده من علم ما يكون إلى يوم القيامة، مما أطلع الله عليه نبيه، وأطلع نبيه وصيه، لم يعلمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد غيره، ولم يقع عليه سواه، فهذا الذي لم يوجد عند غير الأوصياء من أهل مللهم فهو علَمُ الأوصياء المبين لها، والدليل الدال بالوصية عليها.(1/594)
استحقاق الأئمة وعَلَمهم
وكذلك الأئمة الهادون الداعون إلى الله المرشدون، بانت إمامتهم، وثبت عقدها من الله لهم بخصال الاستحقاق، وبالعَلَم والدليل الذي بانوا به من غيرهم، وامتازوا به عن مشاركة أهل دهرهم.
فأما الاستحقاق فهو ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والعِلْمُ والورع والزهد، والدعاء إلى الله، وتجريد السيوف، وخوض الحتوف، وفض الصفوف، ومجاهدة الألوف، ورفع الرايات، ومباينة الظالمين، وإقامة الحدود على من استوجبها، وأخذ أموال الله من مواضعها، وردها في سبلها التي جعلها الله لها وفيها، مع الرحمة والرأفة بالمؤمنين، والشدة والغلظة على الفاسقين، والشجاعة عند جبن الناس، والمجاهدة للكافرين والمنافقين، فهذا باب الاستحقاق للإمامة.
والعَلَم والدليل فهو توفيق الله وتسديده لوليه وتأييده، وإيتاؤه اياه الحكمة ?وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً?[البقرة: 269] ?ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ?[الحديد: 21].
ودليل ذلك وعلَمُه الذي يدل على أنه قد آتى وليه الحكمة ما يظهر من الإمام من الأمور المعجزات لأهل دهره، من حسن علمه، ودقائق فهمه، وحسن تعبيره، وتمييزه والمعرفة بالتأني لتعليم رعيته، وتفهيمها بما تحتاج إلي فهمه حتى يكون معه من الشرح لما يسأل عنه والتبيين لما يأتي به، والاحتجاج فيه وعليه بالحجج البالغة، والبراهين النيرة التي لا توجد عند غيره، ولا ينال شرحها والاحتجاج بها سواه، مع التأني لقبول عقول العالمين لما به يأتي من الحق المبين، والأمر المنير، مع استنباطه لعلم دقائق الكتاب، ودقائق الحلال والحرام في كل الأسباب، التي لا يقع عليها إلا من تولى الله اللطف له، وتوحد بالهداية لقلبه، ممن قلده أمر رعيته، وحكم له بالإمامة على بريته.(1/595)
وهذه الأشياء التي ذكرنا من حسن البيان، والشرح، وإيضاح ما يحتاج إليه من دقائق حسن التعبير، وجيد التمييز الذي لا يوجد في سواه، فهي العَلَم والدليل على إمامته وعقد الله سبحانه ما عقد له منها، وذلك يا بني العَلَم الأكبر، والدليل الأوفر على عقد الله الإمامة لمن كان ذلك فيه وعنده ولديه.
والحجة فيما قلنا به من أن هذا أكبر الأعلام والدلايل، أن الله تبارك وتعالى تعبد الخلق بمسموع ومعقول، فالمعقول: ما أدرك بالنظر والتمييز بالعقول، والمسموع فهو ما يسمع بالأذن من المسمِع المؤدي من نبي، أو وصي، أو إمام مهتد. وإذا كان فرض الله ومتعبده لخلقه بالمسموع، كانت حاجة السامع إلى تأدية المسمع لازمة، إذ كانت حجة الاستماع على المستمع واجبة، وإذا كان ذلك كذلك أحتاج الإمام المسمِع للرعية إلى أن يكون في الكفاية، والفهم بالشرح والتبيين ودقائق حسن التعبير وجيد التفصيل، ومبين التفهيم، والمعرفة بالتأني لتعليم الرعية وتفهيم البرية لما يحتاجون إليه على غاية ما يكون؛ لأن ذلك كله تأدية عن الله لما افترض على الخلق من المسموع، فإذا كمل في هذه الأشياء فقد كمل في التأدية عن الله لفرائضه المسموعة في كل معنى، فلذلك قلنا إن حسن التأدية بلطائف التعبير، وحسن الاستماع للسامعين في التأدية والتفسير، أكبر أعلام الإمامة، وأدل الدلايل على الحكمة التي يؤتيها الله أوليائه، لأن من آتاه الله الحكمة فهو عند الله من أهل الولاية والمحبة، ومن تولاه الله وأحبه فهو آهلُ الناسِ من الله بالإمامة، وأولاهم منه سبحانه بالكرامة. فمن كان كذلك من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الإمام المفترض الطاعة الذي لا يجوز لأحد خذلانه، ولا يسع رفضه، ولا يؤمن بالله خاذله، ولا يوقن بالوعد والوعيد تاركه.(1/596)
فافهم يا بني هداك الله ما شرحنا لك من أعلام النبوة ودلايلها، وأعلام الأوصياء ودلايلها، وأعلام الأئمة ودلايلها التي تدل على عقد الله الإمامة لمن عقدها لهم والحكم منه سبحانه بها فيهم، فقد شرحت ذلك لك شرحاً مجملاً، وفسرت لك بعض ما تحتاج إليه تفسيراً كاملاً، فلا تلتفت إلى غير ما قلنا من أقاويل الهرّاجين، وتعبث العبَّاثين وزخاريف كلام المتكلمين، وافتراق أقاويل الجاهلين، ممن يقول: إن الإمامة بإجماع الرعية، وقول من يقول: بل هي لما يوجد من الآثار المروية في الملاحم المذكورة، وقول من يقول: هي بالوراثة لولد بعد والد، لا يلتفتون ويلهم لما تستحق به الإمامة من البينات، والشواهد النيرات، همج رعاع، وللجهال أتباع، لم يقتدوا بالحكمة فيعلموا بما به تحق الإمامة لصاحبها على الأمة، قد جعلوا الحكم بها وفيها لغير من حكم الله، وجعلوا الحكم بها إلى غير الله، فركبوا من ذلك مركباً وعراً، واكتسبوا به في الآخرة ناراً وعاراً، اعتمدوا في أكبر أمور الله وفرضه من الإمامة على التقليد، فقلدوا الحكم بها كبراءهم في كل الحالات، وطلبوا إثباتها من أبواب الروايات، جهلاً بما عظم الله من قدرها، وتصغيراً لما كبر الله من أمرها، فتكمهوا بذلك في ظلم العمايات، وغرقوا في بحور الجهالات ?وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ?[الشعراء:227] فلا يبعد الله إلا من ظلم، وأساء وغشم، وحسبي الله فنعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1/597)